الثلاثي الأقدس في مخلوقات الفنان سعد علي
إن الفن الحقيقي لا يعيد الأشكال ولا يكرر الصوَّر المفتعلة، بل يكمّل كلَ جميل ببراعة تكتيكية أجمل. والصورة الواقعة والمنطبعة تثير وتستنير بتفاعل وصراع جدلي مع ما في حقيقة الواقع من متناقضات، وأن قيمة الفنان عالية بقدر ما يتمكن من الاقتراب أكثر من قضية المتناقضات الأكثر جوهرية في عصره.
الفنان سعد علي العراقي المقيم حالياً في اسبانيا، يستمد ويستفيد من التجارب الفنية الأخرى، ليخرج بتجربة خاصة، تنتمي إلى ذاته أكثر مما تنتمي إلى مدرسة أخرى، والثلاثي الأقدس في مخلوقاته (المحبة، الأمل، الفرج)، هي الثيمة والمحور في التجربة.
وتجربته الفنية فيها (الأتباع والإبداع)، يعشقها بمفردات تشكيلية تعكس ماهيات الحياة واشكالات وأزمات الإنسان في الوجود. حيث يعد الفنان التشكيلي سعد علي المخضرم في زواغير الليل وبألوان مصحرة ذات ضجيج صارخ في الأفكار.
فسماوات اللوحة تصاغ بصخب رافض حتى لو كانت هذه الأفكار والمواضيع تشع من ردهة محنطة ليخور القداسة لمرجعيةٍ ما، لذلك نجد أعماله اقرب ما تكون إلى تخطيطات منفذة؛ تعطي مواضيع ترمز إلى عالم مثالي بعيدة عما هو معروف من انماط قابعة مألوفة في الرسم، فهيَّ من دون أن تتولى تأسيس رؤية لذلك العالم.
في لوحة سعد علي تفاصيل محتشدة بسردٍ من الحكايات وما خلف الأبواب القديمة المرصعة بالمسامير الصدئة، من طقوس لها بعد (زمكاني) مختوم بالعاطفة من فكرة الأبواب العراقية المشيدة في ذاكرته؛ ويتعداها إلى حدود العالم ومحيطه الجديد، لأن فكرة الأبواب فكرة أزلية وكونية معروفة بالدلالات. ونحن لا نعرف أي شعب استبق أو اصطنع استعمالها قبل من!!.
انطلق الفنان سعد بسماته الفراتية وبزيّ (اليشماغ) المرقط نحو العيون الواسعة المبالغة بالهدوء وما فيها من احلام العودة لزمن الخيال، فيئن سعد بنواح الزواجل للعودة إلى الجنة والرجوع إليها باستفزاز الأشواق وتكوين ما في قلبه مع وجع الحنين، وبشفافية عالية غاية في المتعة والحساسية الفنية الخاصة جداً بزمن كان.
فيحلم سعد بهدوء مصطنع، وبحلم يقود احلامه الوردية، ليجد الأجيال القادمة عمّتها السعادة ولم تعد تعاني من خيبة الأمل التي عانينا وعانى الفنان منها في حياته القاسية. نرى في ممارساته الفنية استخدم الحواس والمشاعر كلها في وقتٍ واحد، يقوم بذلك تلوين افكاره، ويسلط عليها الأضواء وبقفزة واحدة “تسبح في النيران وفضاء الجمال والدهشة”، مثلما كتب الاستاذ مفيد الجزائري عن أحد معارض سعد الفنية.
سعد علي يستعيض عن الحقيقة بالخيال الفني الساحر راكباً مركب الثبات الالهامي لعصرنة المواضيع، متجهاً صوب المحبة، المحبة لا حصر لها وليس لها حدود، ولا تعرف الأزل، وهي تنصهر وتطحن بفيض الأنفعالات مع خراب الوجود والواقع المتناغم رومياً والمزري والغارق في لجة الأحلام ورواسب الذكريات وما فيها من رموز (لباب الفرج) المتلاحم مع التراث، مع الواقع وباستعارات وابتكارات مؤطرة بالتجديد وكسراً للإطار. مثلما نرى لوحة (السبايا) في واقعة الطف، وتسفير الأسرى إلى الشام على ظهر سفينة بدلاً من الخيول أو الجمال أو ما شابه ذلك، مشياً على الأقدام كما ذكروا من قبل. ومن شأن الاستعادة هنا أن يزداد التشبيه فضاءً، كي تزداد الاشارة جمالاً وقوة مؤثرة خارج المعروف والمألوف، وباتجاه لوني فعال بقوة الإخراج لذبذبات ابداعية وايقاعات مائزة في العلاقة اجمالية المدهشة للأشياء والطبيعة. ويقيناً أن ما يراه المبدع لا يمكن أن يراه غيره، لكن مشاهدة دقة الأعمال المستعرضة على صفحات التواصل الاجتماعي تستعر فيها الروح والعين.
في اغلب لوحات الفنان سعد نرى الوجوه خاضعة، مشوهة الأشكال والتناسب والقياسات في الأجساد، والعجب فيما نرى احساساً ولذة جمالية؛ حيث التشويه هنا لا يثير الاشمئزاز ابداً، وهذا هو الفرق بين الصورة الشمسية أو (الفوتو) بأنواعه، والعمل الابداعي الخلاق، حيث الشكل غير المألوف عند سعد معبراً عن الحب النقي الشفاف المندفع والمتحد بكل ما أوتيّ من عنفوان، حيث الغموض يمزق الوضوح في المعنى والعكس صحيح. والمعنى الذي يفتش ويتحدث عنهُ سعد يربط الغموض بسلسلة الوضوح الذهبية وبتشبيهات.
مجازية للشكل العام. من خلال ذلك يحاول الفنان غرس المفاهيم ولو بوشائج بصرية لماعة من ظهير ثقافي يصور بخلقه ذلك، إنهُ اكثر رفعة من البشر لأن واقعه الفني اكثر تطوراً من الواقع. الصفاء الفني الذهني في مخلوقات سعد سابح في تخوم الأحلام المشتهاة، شيء فوق الوصف والخيال، فوق العواطف والاحساس، فوق العقل والأفكار وما فيها من روابط في الأهداف، رغم أن بعض الأهداف عبودية. ولكن فيها مواثيق من الأمل الحزين والغربة والأغتراب. فيها تأملات مفتوحة على عالم واسع اوسع من الرغبة العارية.
نلاحظ في اعمال أخرى أن سعد حاول اذابة روحه وجسده على جغرافية اللوحة، مفتتحاً بالألوان صياغة الأشكال من ثنايا الجسد كما لأفعى إلى حركات الأيادي والأرجل لأتمام الوحدة العضوية داخل التعدد. بينما العيون تتحدث راجفة باللذة لجذب الاهتمام، وبعملية وحركة ابداعية تشبه السحر.
سعد بأسلوبه الفني يقوم بتبسيط الخطوط محاولاً بتكرار ابداعي تجسيد فكرته ثم تعقيد الموضوع لخلاصة روحية تمثل فلسفة المستقبل الصافية. ويعتقد أنها تحفظ صورتها من قبل المشاهد عن ظهر قلب، لما لها من تأثير حاسم في سايكولوجية المتلقي.
تتجسد تجربته شأن تجربة الجيل الثالث، إذا صح التعبير كما ذكر ذلك إسماعيل زاير حين قال: (أي جيل ما بعد الرواد العرب محاولاً تجسيد المفاهيم الفكرية المرتبطة بفلسفة الفن، سواء بجناحها الذي يركز على المعنى الواقعي أو الآخر الذي يصور التجربة البصرية من خلال الخلاصات العلمية والمستقبلية كإشارات للمضمون الجديد الذي لم يتم حسم الجدل أزاءه).
وسعد بانفعال صادق يوظف قدراته الفنية بعمق لا متناه كي لا تفنى أو تهمل غائيته، لذلك نراه يقشر العمل الفني ويستعمل لبّ المعنى اللوني بفظاظة تتجلى في اللامعنى باحتبال الواقع والفكرة الملونة بالقسمات والأطياف، لأنه يخاف الفراغ الملوث بسواد الأعظم للمتاهة، ويحاول صهر روح الأشياء في عناصر متصارعة بعشق خيالي قاهر لكل ما هو قسري في بانوراما المنظور المتصور، وإن كل الكوابيس لا تستطيع كبح جماح الخيال. ثم يقوم باخضاع ذات المرسوم بتحيز النزوات الباحثة بشغف عن الاضطرابات المحركة للأعصاب وبادراك جمالي، ووحي عقلي غايته الأثارة ببهرجة الفوضى الخلاقة المنضوية تحت مظلة الأندهاش الفني لأنهيار الواقع المزري؛ وبحمى تشكيلية لا تهدأ.
دائماً يكر كما قلنا مواضيع حياتية وتاريخية شتى محاولاً الوصول إلى الكمال الفني في عوالم مثل (ألف ليلة وليلة)، وبلا شروخ جمالية ليظل محافظاً على سميته الشرقية وجذوره الرافدينية رغم ضغوط التيارات العالمية وعلاقتها التوجيهية والمعرفية للفن، حيث كل المدارس والتيارات آتية من الغرب.
يؤكد الناقد ياسين النصير على أن لوحات سعد (تؤكد أن منحاه ذاتي بحت وثمة خلفيات شرقية كثيرة، لكن هذه الذاتية تمتلك خصوصيتها عن طريق تجاورها اتجاه اجيال من فناني الشرق والفن الإيراني، والفن المصري القديم، وفنون الصين واليابان، والفنون السومرية ذات البعد الواحد على ابراز قياسات الجسد الداخلية والوجوه المتلفتة إلى جهةٍ ما).
والفنان سعد وباستباق فني يمور فيه الإخلاص لشيءٍ ما كتعبير عن المبادئ، ابتكر اسلوبه الفني بفرادة، وبحجوم وسطوح وضعية متمردة. لأن الفن عنده لا يعرف الركود أو السكون، لذلك رسم بحداثة موضوعية مثل (لوحة الفانوس السجين)، ولوحة (صندوق الدنيا)، وغازل في لوحة أخرى سيدة الغناء الشرقي (أم كلثوم)، وصديقه الشاعر الشعبي الراحل (عزيز السماوي)، فضلاً عن ما في لوحاته من اشارات لمواضيع مختلفة متعددة الأفكار، وفي مفردات تراثية وشعبية، لنبش الماضي وما فيه من خرق وصرائر العجائز وحاجيات الأمهات السرية؛ كما الطلاسم وقصاصات التعاويذ، حيث يؤكد منعم الفقير أن لوحات سعد (تتخذ اللوحة الواحدة أكثر من نقطة كمراكز لاستقطاب النظر، ثم تتشعب ببناءات لونية وخطية تنحني بالألم وتتقاطع لرغبة، وتتمازج بالحيرة لكي تنتهي إلى تكوين يتعدد بتعدد الحالات والمواقف).
وهو ينتقل بطاقيته المشهورة على رقعة الشطرنج كبيدق يحارب من اجل عيون محبوبته، وعلى كل الجهات، متراقصاً بسهامه الشعرية التي تغزوا لوحاته.
لذلك نجد المتابع للواحات سعد علي يلاحظ الألوان تتمرغ بالدماء الفضية كلون الشمس لخلق نمط جديد في الرسم يهاجم به ابصار المتلقي، المبهور بتوهج الاغماض. وحتى اللوحة ذات اللون الواحد، المستكشف الواضح في المتأمل للوحة لا يقع في مطب الرتابة البصرية، ولا يشعر بالملل، لأنه اتخذ مسلكاً فنياً غاية في التنسيق والمضمون بتناغم روحي في فضاءات اللوحة، محاولاً تثوير مختزلاته وآراءه الفكرية بذكاء ابداعي قاتلاً بذلك الطريقة التعليمية الفجة لما فيها من عسف فني مربك للموهبة، مملوء بالكبوات والكبح الانعاكسي الفني على ذات الفنان المنطلقة بقوة سحرية جمالية خلاقة، يتسامى بها الفنان سعد علي إلى مصاف الفنانين الكبار.