في إستذكار قديم لحقائق مغيبة !.
علي كرادي
صبرت طويلاً على دلوي في شهادتي ، رغم الضغوطات النفسية والمعنوية في قول الحقيقة وما جرى لنا نحن شبيبة بعقوبة في أقبية أمن بعقوبة وما تركته من ويلات رافقتنا سنوات طويلة وإلى يومنا هذا ، وهناك للأسف من ركب موجها متشدقاً بالبطولة المزيفة ، مستفيداً من الوضع الجديد بعيداً عن مجريات الواقع وتفاصيله اليومية الذي عشناه نحن الشبيبة الشيوعية في زنازين أمن بعقوبة . تحت تلك الأدعاء المزيف في وضع عراقي سياسي مشوه حصلوا على رواتب ورتب وأمتيازات !. وطمروا الحقائق بل حرفت عن حقيقتها .
أنا علي خزعل الكرادي من عائلة الكرادي البعقوبية ، ولدت ونشأت وسط عائلة فقيرة أرتبط مصيرها بالفكر اليساري ، فمنذ بداياتي الأولى ، شعرت بهذا الأنتماء ، والذي لم أندم عليه يوماً ، رغم الاحباطات المتكررة . في عمر ١٤ عاماً أنتميت الى إتحاد الطلبة العام قبل تجميده من سلطات البعث في زمن الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ، كنت طالباً في ثانوية الانتصار ، فتعرفت على ثمة طلبة وأصدقاء ورفاق . وبحكم هذا الحب أستمرت علاقاتي مع هذا الوسط ” الشيوعي ” رغم فارق السن ، حيث تعلمت منهم الكثير من خلال تجربتهم وقراءاتي البسيطة . بعد مرحلة المتوسطة أنتقلت الى أعدادية بعقوبة المركزية المسائية ، وفي الوقت نفسه كنت أعمل في مجالات البناء والصبغ . في هذا الوقت ألتقيت بإبراهيم الخياط وكامل كلاز وحميد رحومي وأحيانا كان يعمل معنا الاستاذ والشاعر المغيب خليل المعاضيدي ، وسط تلك الاجواء والوجوه أزداد تأثري بالفكر والثقافة والمعرفة وحب الأطلاع ، مما لفت أنتباه رجال أمن بعقوبة ، وبدأوا يلاحقونني في أستدعائات متلاحقة الى بناية مديرية الامن !.
في خريف عام ١٩٨١ ، وأنا ذاهب الى دوامي في الاعدادية أستوقفني رجل الأمن المدعو طارق من أهالي قرية شفته ، قال : أنك مطلوب أن تذهب معي الى بناية مديرية الأمن فقط هناك أستفسار بسيط وترجع ، فرافقته بكل هدوء ، وفي عتبة باب المديرية قيد يدي وعصب عيني بخرقة عفنة ، ثم أدخلوني الى مكان مجهول وأمروني بالجلوس ، وبعد عدة ساعات أخذوني ووضعوني في غرفة وربطوني بسلسة موصولة في جدران الغرفة وشباكها ، بقيت في هذه الغرفة لمدة شهرين بدون سؤال ولا تحقيق فقط وجبات من الأكل ، بعد هذه الفترة الزمنية والتي كانت صعبة ومؤذية لي ، أنتزعوني منها عنوة وغطوني ببطانية وقادوني بصمت ورهبة الى أن وصلت الى مكان معد للتحقيق والتعذيب ، وبدأوا معي حالاً حفلة تحقيق وتعذيب شعرت أني وسط دائرة مكونة من ستة وحوش مفترسة كل وحش يحمل في أنيابه أداة تعذيب كابيلات وعصا كهربائية وتواثي وأسلاك مطاطية بدون أي سؤال ولاحتى ببنس كلمة الى أن أغمى عليه ونقلوني الى مكان ، كان بارد ورطب لمدة يومين . بعدها بدأت حفلة ثانية من التعذيب في نفس الغرفة أجلسوني على كرسي كهربائي وأرغموني أن أخلع كل ملابسي ، وكان شتاء بارد وقارص ووضعوا على جسمي العاري كونية رز مبللة بالماء ، وبدأوا بتعذيبي بعصا كهربائية في أماكن حساسة في جسمي ، وأستخدموا معي الفلقة مصحوبة بهستيريا من الصراخ بكلمات نابية ومنحطة ولم يطلبوا مني أي شيئ معين أو أعتراف بمادة معينة . بعدها ربطوا يدي من الخلف وعلقوني في الحائط وشعرت أن كتفي أنخلع من مكانه وتركوني بائس ومدمر . بعد هذا الشوط من التعذيب القاسي وضعوني في نفس المكان وأنا ألتقط أنفاسي الآخيرة بعدها سمعتهم يتحدثون مع شخص يسألونه عني ، عرفت أن هذا الشخص هو ضامر خليل !.
ضامر خليل موسى !.
يعترف لهم وأمامي ، إنه أرسل لي رسالة يدعوني بها الى الإلتحاق بقوات الانصار الشيوعيين في شمال العراق ، وأن الرسالة أرسلها لي بيد عصام حسين ، وعندما واجهوني بضامر وجها لوجه لم أنكر وأكدت وصول الرسالة لي ، رغم أني لم أعرف من هو عصام حسين ؟. ولم يصل لي الرسالة ، وإنما الرسالة وصلت لي عن طريق عادل جابر الذي أعطاه أياه منعم المعاضيدي أخ الشهيد خليل المعاضيدي . هؤلاء الأثنين بموقفي هذا أنقذتهم من الاعتقال وتحملت كذبة ضامر من أجل هؤلاء الاصدقاء . لو كان ضامر يعرف بهم لاعترف عليهم وسحبوهم الى الإعتقال وتحملوا ما تحملناه . والغريب في الأمر رغم ذكر عصام حسين بأكثر من موقع في الاعترافات ، لكنهم لم يتعرضوا له ولا حتى إستدعائه الى مديرية الأمن . بعد هذا الفصل من إعترافات ضامر وإنهياره ، بدأوا معي حفلة التعذيب الثالثة وحول مضمون الرسالة وما مكتوب بها ، أكدت ما قاله ضامر عن مضمون الرسالة وهي مختصرة ” نحن ذاهبون الى الشمال ” . ولم يتعرض ضامر الى تهديد أو تعذيب كان متعاون معهم بل أعترف عن نساء وأشخاص كانوا بعيدين عن ملف القضية التي مسجونين بسببها . ضامر كان يتحدث بكل أريحية ويذكر لهم أسماء لا على التعيين مما تحول الى سخرية وإستهزاء بينهم . بعد حفلة التعذيب هذه نقلوني الى نفس المكان وجدت بجانبي في الغرفة شخصين معي إبراهيم من كربلاء وشخص آخر معوق أعتقد أسمه عمار من محافظة ميسان ، وعندما سألتهم قالوا لي أن ضامر من أتى بهم وأعترف عليهم ، وبعد وجبة تحقيق دسمة معهم أطلق سراحهم لأنهم فعلاً لا علاقة لهم بملف القضية . كنت في وضع مأساوي حيث لا أقوى على الحركة قدمي منتفخة وتركوا ثقوب في فخدي وأكتافي ، وبعد أيام أكتشفت أن في داخل الغرفة الموجود بها ، هناك غرفة ثانية فيها شخصين هما طالب عجم ” طلبانة ” وحسين هادي موظف في بنك الرافدين في بعقوبة هؤلاء أيضاً أتى بهم وأعترف عليهم ضامر بإدعائه أنهم دفعوا تبرع له ، طبعا هذه سلسلة من إنهيارات موقف ضامر خليل المخزي .
بعد عدة أيام جاؤوا وأخذوني محمولاً بالبطانية الى غرفة آخرى ، وكانت الوقت ليلاً للتوقيع على أفادتي وأقوالي في التحقيق ، وكان ضامر يجلس قربي على الأرض طبعاً ، وكنت مقيد اليدين ومعصوب العينين ، وبدأوا يسألون ضامر عن أهم أحتياجاته قال لهم : أريد صمون إضافي فقالوا له أبصق على علي ” أتفل عليه ” ونزيد لك الصمون طبعاً ضامر ما قصر في الحال بصق عليه وتفل ، ثم سألوه كم صمون تريد قال لهم ثلاثة صمونات فقال أحدهم أعطوه ثلاثة صمونات ، فبادر أحد رجال الأمن بضرب ضامر على رأسه بالحذاء ثلاثة مرات . كانوا يقولون له بأستهزاء ” ولك كل ما نهزك يوكع منك شيئ ”. وعندما سألوني عن رأي بضامر . قلت لهم إذا تبقون تهزوه سوف تجيبون كل أهالي بعقوبة !.
بعد هذا المشهد التراجيدي من الرفيق ضامر وقعوني على أفادتي وأعادوني الى مكاني وبعد أسبوعين جاؤوا وحملوني بالبطانية مرة أخرى الى مكان بدون قيد اليدين ولاحتى عصب العينين .
اللقاء المفاجيء !.
في هذا المكان الجديد وجدت نفسي وسط حشد من الناس ، كانوا أبناء مدينتي ورفاقي وأصدقائي كل من إبراهيم الخياط ، عبد العظيم كرادي ، ضامر خليل ، طالب عجم ” طلبانه ” ، كريم ناصر ، عبدالله الهويدراوي ، رعد عز الدين ، حسين هادي ، عبد الكريم النجار من كربلاء ، أحمد صفر . وجدتهم كلهم بصحة جيدة ووزنهم مرتفع . وللأمانة أن الذين تعرضوا الى التعذيب أحمد صفر ورعد عز الدين . وبعد أيام معدودات نقلونا الى الموقف العام ووجدنا هناك مجاميع آخرى من المعتقلين قسم منهم مهربين وبعض الإسلاميين السنة ” أخوان المسلمين ” . وفترة تواجدنا مع بعض في الموقف العام كنا نسمع منهم قصص وحكايا عن محاولاتهم للهروب خارج العراق عبر منافذ مدن الشمال العراقي ، وكانوا بينهم مندسين أوشوا للسلطات عنهم قبل خروجهم وتم إعتقالهم .
هناك سؤال أطرحه على نفسي دوماً … وما زال يعذبني طيلة هذه السنين .. لماذا أنا دفعت ثمن فاتورة أخطاؤهم ، وتحملت هذا الكم من الاهانات والتعذيب ، وأنني لا علاقة لي بهم ولا بنواياهم ؟؟ . وسؤالي الدائم لماذا لم يتعرضوا الى التعذيب الذي تحملته أنا وحدي؟؟.
محكمة الثورة !.
بعد أن أكملوا مجريات التحقيق معنا ، وأفرغوا ما في جعبتنا من معلومات ونوايا ، حالوا ملفنا الى محكمة الثورة السيئة الصيت في العاصمة بغداد ، وقادونا الى هناك وبدون قرار حكم ، تم إعاتنا مرة ثانية الى مديرية أمن بعقوبة . وبعد شهور من الإعتقال في الموقف ، وفي يوم ماء وزعوا ملابس جديدة علينا ” دشاديش ”وحلقوا رؤوسنا في الماكنة ، وفي اليوم التالي قادونا في بسيارات مخصصة الى بناية مديرية الامن العامة في بغداد ، وأدخلونا في قاعة كبيرة وألتقينا بأولياء أمورنا مع معتقلين من مدن أخرى ، وبعد فترة لاتحسب من القلق والخوف ممزوجة بلحظات من الفرح المجهول ، دخل علينا فاضل البراك مدير الأمن العامة ، الذي أعدمه صدام لاحقاً ، وألقى علينا خطب ومواعظ رنانة أمام ذوينا وأنهى حديثه بمكرمة القائد صدام حسين في إعادتنا الى الحياة مرة آخرى .
وفي نهاية المشهد أعطونا كتب رسمية مغلقة معنونة الى كل واحد منا الى موقعه السابق سواء كان في وظيفته أو مقعده الدراسي أو ثكنته العسكرية . أما أنا زودوني بكتاب سري الى مديرية تربية ديالى ، ولقد حملته وذهبت الى هناك ، وعندما دخلت على المدير في مكتبة ، كان يرتدي الملابس العسكرية ومسدسه يتهدل على خسره ، وعندما أخذ مني الكتاب وفتحه وفي نظرته الأولى له حيث جن جنوبه ، وبدأ يصرخ ويكيل السب والشتم وأنني أستحق الموت والقتل لأنني خائن ، فخرجت من مكتبه مهزوماً مكسوراً ، أجرجر خلفي ويلات اليأس والمستقبل المجهول . بدأت حياتي رتيبة وتسير بثقل الايام الصعبة ولا بارقة ضوء تلوح لك من بعيد . بعد شهرين تقريباً من خروجي من رهن الإعتقال ، صعقت بخبر أعدام أخي الأكبر كريم خزعل ، الذي كان هو أيضاً رهن الإعتقال ، مما ترك على حياتنا ويلات وأوجاع جديدة ، وبدأوا ملاحقتي من جديدة في تفاصيل حياتي اليومية ودعوات متكررة الى دوائر الأمن ومقرات حزب البعث لتذكيري أنك ما زلت في بالنا وزرع الرعب في نفسي !.
علي خزعل كرادي