عباس الجراري: عميد الأدب المغربي
يعتبر فقدان أحد أعلام الفكر والثقافة في أي بلد خسارة فعلا، فالمجتمعات يمكن أن تجد في أي مجال من المجالات من ينوب أو يحل محل من يُفقَد. لكن المبدعين والمفكرين قلما يجود بهم الزمان، ولاسيما حين تكون مساهمتهم في العطاء الثقافي والفكري غزيرة ومتنوعة ومتميزة. هذا ما استشعرته بفقدان عباس الجراري.
لقد كان باحثا موسوعيا خاض في الأدب والثقافة والتاريخ والدين، وترك خزانة حافلة بالكتب منذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، في الوقت الذي كانت فيه الكتابة والكتاب في المغرب في بدايات تشكلهما، بعد مرحلة الاستقلال. ابتدأ بالبحث في الزجل المغربي من خلال «القصيدة» (1970) في الملحون موضوع أطروحته لنيل الدكتوراه من القاهرة. وانخرط بعد ذلك في النقاشات التي كانت دائرة في تلك البدايات حول الأدب والالتزام، من خلال كتابيه حول «الحرية والأدب» (1971) و»الثقافة في معركة التغيير» (1972). ثم توالت إصداراته بعد ذلك وهي تتوزع إلى دوائر حول التاريخ والأدب الأندلسي من خلال الموشحات، والثقافة الشعبية، والملحون، وحول شخصيات ثقافية مثل، الأمير الشاعر أبو عبد الربيع سليمان الموحدي، وابن زيدون، واليوسي، وأبيه العلامة عبد الله الجراري. إلى جانب كتاباته عن القضية الفلسطينية والأندلس والصحراء، ولعل مساهمته الجليلة في الإشراف على «معلمة الملحون» التي أصدرتها أكاديمية المملكة المغربية تبرز بجلاء أن لا أحد يمكنه أن يضطلع به سواه.
أتيحت لي فرصة التعرف على الجراري عن كثب في سلك تكوين المكونين (1983 ـ 84) حين كان محور اشتغالنا معه في مادة الأدب المغربي، في الوقت الذي كان محور أمجد الطرابلسي منصبا على اعتبار سيرة ابن هشام ديوانا شعريا، وعلينا البحث في المادة الشعرية فيها. كان كل واحد منا مطالبا في كل حصة بتقديم عرض في الموضوع. في أحد اللقاءات قدم زميل معنا عرضا حول محمد زفزاف من منظور بنيوي تكويني، وفي المناقشة كان إجماع الإثني عشر باحثا، أن الدراسة لا ترقى إلى المستوى المطلوب. تنوعت الانتقادات حول المنهج، وحول طريقة التحليل وما شابه ذلك. كان يستمع إلى كل واحد منا بانتباه، ويتابع ما يقال بحرص شديد. وجاء دوره ليقدم رأيه في البحث وانتقاداتنا. لا شك في أن زميلنا كان في موقف حرج، لكن الجراري ابتدأ قوله بأن هذا العرض جيد جدا. كانت هذه الجملة كافية لتجعل نظراتي ومحمد الماكَري تلتقي، وهي محملة بالتعجب والاستغراب. وتابع قوله متوقفا على مزايا البحث وقيمته، ما أدى إلى تغير نظرتنا إلى الموضوع. كان تعليقه بالنسبة إليّ درسا لا يمكنني أن أنساه، ولقد ذكّرته به في التكريم الذي أقيم له في آسفي، وكان قد نسيه. مفاد هذا الدرس أنه يمكننا بسهولة الانتباه إلى ما يعتور أي جهد إنساني من خلل، لكن استكشاف ما يمكن أن يتضمنه من إيجابيات يتطلب صفاء السريرة، من جهة، واختيار عبارات النقد دون تضخيم أو مبالغة، من جهة أخرى.
هذا هو الجراري كما عرفته، وكما يمكن تلمسه من خلال طلبته الذين كونوا حوله حلقة تلتقي به كل خميس في نادي الجراري، في بيته. لا نجد هذا التقليد إلا في تجربة الجراري، أغلب الأساتذة تنتهي علاقة طلبتهم بهم بعد الحصول على الدكتوراه، وقد تبقى العلاقة قوية، والمحبة واجبة، لكن أن يستمر حبل الاتصال موصولا باستمرار فهذا لم يتحقق إلا مع الجراري، الذي كان ناديه ملتقى يجمع محبيه وطلبته من المغرب وخارجه.
عندما صدر ديوان سيدي امحمد البهلول زرته في مجلسه، وكانت تلك أول وآخر زيارة، فوجدت حضورا غفيرا من الطلبة والأساتذة، فقدمت له نسخة الديوان، الذي تحدثت عنه باستفاضة، وقرأت منه قصيدة، ولم أجد فيه إلا الأذن الصاغية، والقلب الكبير. إن هذا الطبع المميز هو الذي جعله مقصدا للطلاب، مغاربة وأجانب، في كل مسيرته الأكاديمية، إنه لا يتأخر عن تقديم المساعدة العلمية، وتيسير الأمور، وتجاوز كل التعقيدات، ولذلك نجد الطلبة الذين أشرف عليهم يفوق أي تصور. وآخر أطروحة أشرف عليها لباحث موريتاني نوقشت في أخريات أيامه. لقد نذر حياته للبحث والتدريس، ورغم كل ما أتيح له من فرص لاحتلال مناصب عليا في الدولة، فإنه ظل حريصا على العمل الأكاديمي، والإسهام في نشر المعرفة. ولا غرابة في ذلك فأبوه عبد الله الجراري كان مدرسته الحقيقية في السلوك والعمل. وهو يشيد به، ويعترف بفضله عليه.
عندما نتحدث عن الأدب المغربي، أكاديميا، لا يمكننا إلا أن نذكر عباس الجراري، لقد كان رائدا في البحث، ومشجعا على دراسته، تماما كما نتحدث عن الأدب الأندلسي حين نصله بالعلامة محمد بنشريفة، لقد كانا فرسي رهان، وإن اختلفت طريقة كل منهما في الاشتغال. فهل سيتوقف البحث في الأدبين المغربي والأندلسي؟ اتفق الباحثون على تسمية الجراري بعميد الأدب المغربي، فهل الجامعة المغربية، قادرة على خلق عمداء جدد في اختصاصات متعددة؟ نطرح مثل هذه الأسئلة كلما غادرنا «عمداء» الثقافة المغربية في مجالات كثيرة.