غزة والمعركة القانونية
عبد الحسين شعبان
أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بخصوص الحرب، التي شنتها “إسرائيل” على قطاع غزة، إثر عملية طوفان الأقصى (7 تشرين الأول / أكتوبر 2023)، بناءً على الدعوى التي أقامتها حكومة جنوب أفريقيا، والتي تم النظر فيها يومي 11 و 12 كانون الثاني / يناير 2024.
أثار القرار ردود فعل مختلفة قانونية وغير قانونية، فبعضها استقبله بتحفّظ، بل شكّك بقيمة قرار تصدره محكمة تابعة للأمم المتحدة، التي تتحكم بها الولايات المتحدة والقوى الكبرى. وبعضها الآخر كان يعوّل عليه تحقيق العدالة المنشودة وإنصاف الضحايا، لعدم درايته بالإجراءات القانونية المعقدة، وثمة رأي إيجابي اعتبر القرار خطوةً بالاتجاه الصحيح في إطار المعركة القانونية والديبلوماسية.
وبغض النظر عن الاختلافات بشأن القرار، فلا بدّ من الاطلاع على حيثياته، التي تلزم “إسرائيل” باتخاذ التدابير لوقف عمليات الإبادة وقتل الفلسطينيين أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، بما يسبب في فنائهم أو فناء قسم منهم، كما منع القرار التحريض على الإبادة الجماعية ومعاقبة المحرضين عليها، وتضمن تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وطالب “إسرائيل” بتقديم تقرير خلال شهر واحد لتطبيق الإجراءات الواردة في قرار المحكمة. ومن جهة أخرى، دعا القرار إلى الإفراج الفوري عن أسرى الحرب “الإسرائيليين” واعتبارهم رهائن.
لم يتضمن قرار المحكمة وقف إطلاق النار، كما كان يطمح إلى ذلك سكان غزة المنكوبين منذ عدة أشهر والمحاصرين منذ العام 2007 ، وهو ما أعطى انطباعًا سلبيًا لدى البعض، إلّا أن القراءة القانونية تقول:
أولًا – إن جنوب أفريقيا لم تطلب من المحكمة ذلك، بل كان جوهر الشكوى النظر في جرائم الإبادة الجماعية، وهو ما قامت به المحكمة بقبول الدعوى، التي من اختصاصها النظر فيها وإصدار إجراء أولي بشأنها. والقرار الذي صدر عنها يشمل ذلك، علمًا بأن المحكمة رفضت طلب “إسرائيل” ردّ الدعوى.
ثانيًا – إن المحكمة أصدرت قرارًا أهم وأقوى في حجيته القانونية، ونعني به وقف أعمال الإبادة، وهذا أشمل من وقف إطلاق النار، ويتضمن إدانة “إسرائيل” بالقيام بجريمة الإبادة الجماعية.
ثالثًا – يمثل القرار تقويضًا لشرعية “إسرائيل”، خصوصًا حين يتهمها بممارسة أعمال إبادة جماعية بحق مجموعة سكانية عرقية فلسطينية، وهو ما يمكن البناء عليه في المعركة الديبلوماسية والقانونية، استكمالًا لجوانب المعركة الأخرى.
رابعًا – إن طلب المحكمة توفير الخدمات الاساسية والمساعدات الفورية لسكان غزة يعني تجاوز الحصار “الإسرائيلي” المفروض عليها بقرار قضائي.
خامسًا – صدر القرار بأغلبية ساحقة من جانب القضاة، وهو ما يؤكد توفّر الركن المادي لجريمة الإبادة (الأعمال الفعلية)، والركن المعنوي (وجود نيّة الإبادة) لدى “إسرائيل” في حربها المفتوحة على غزة، الأمر الذي دفع بعض القضاة إلى مخالفة المواقف الرسمية لدولهم، كما فعل القاضي الألماني والقاضي الفرنسي والقاضية الأمريكية، باستثناء القاضية الأوغندية التي صوتت ضدّ القرار، بل إن القاضي “الإسرائيلي” صوّت لصالح بندين من القرار، الأول يتعلق بمنع التحريض والثاني توفير الخدمات، كما أنه لم يعترض على اختصاص المحكمة في النظر بالقضية.
كقانوني أستطيع تقييم هذا القرار إيجابيًا، وعلى نحو كبير جدًا، لاستناده إلى قواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي واتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، بل إنه القرار الأول من نوعه، وهو يتضمن إدانة الممارسات “الإسرائيلية” بشكل واضح ويطالبها باتخاذ تدابير محددة، بما فيه تكليفها بتقديم تقرير خلال شهر عن مدى التزامها بما طلبته المحكمة، وهو قرار ملزم، على خلاف الفتوى الاستشارية القانونية بشأن الجدار العازل التي صدرت عن المحكمة العام 2004، فلم تكن ملزمة، وإن كانت ذات قيمة معنوية مهمة، ويمكن البناء عليها. والقرار يطالب “إسرائيل” بتوفير وسائل الحماية المدنية لسكان غزة، بما يعني رفض القتل والتهجير وتدمير المرافق العامة.
يُعتبر القرار سندًا شرعيًا وقانونيًا لدعم الحق الفلسطيني في المعركة الديبلوماسية والدولية، كما أن تنفيذ هذا القرار التاريخي يتطلّب، أولًا وقبل كل شيء، وقف إطلاق النار حتى وإن لم ينص عليه، إذْ كيف يمكن وقف الإبادة الجماعية دون أن تكون الخطوة الأولى في ذلك وقف إطلاق النار.
وهو وإن كان قرارًا احترازيًا مؤقتًا، إلّا أنه سيكون مدخلًا لإصدار قرار بات واجب التنفيذ فيما إذا امتنعت “إسرائيل” من تنفيذه ويفترض فرض عقوبات عليها، وحينئذ يمكن الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لاتخاذ القرار، وإذا ما استخدم “حق الفيتو” من جانب حلفاء “إسرائيل”، فإنه سيضعهم شركاء في جريمة الإبادة، وفي ذلك جانب أخلاقي وأدبي، وعندها يمكن الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار 377 والمعنون “متّحدون من أجل السلام” الصادر بخصوص كوريا العام 1950، وتلك مسألة يمكن مناقشتها في حينها.