شهادات من سنوات القمع والحديد والنار العراقية:
قراءة في كتاب “أوراق صفراء من الصندوق الأسود” لمحمد السعدي
علاء اللامي*
صدر قبل أشهر قليلة كتاب جديد للكاتب والناشط السياسي العراقي محمد السعدي بعنوان “أوراق صفراء من الصندوق الأصفر” عن “مؤسسة أبجد للنشر والتوزيع”. في هذا الكتاب الذي يضم أكثر من ستمائة صفحة من القطع المتوسط، يواصل السعدي رواية وتسجيل شهاداته الشخصية التي سجلها في أكثر من كتاب، كنت قد قرأت منها كتابه ” بيني وبين نفسي” الصادر سنة 2021.
في كتابه الجديد لا يغادر السعدي دائرة الحدث العراقي الساخن، والممتد زمانياً طوال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، ومكانيا وأسلوبيا. فمن ناحية الأسلوب تستمر الرواية بصيغة المتكلم، في جنس من النثر الذي لا يمكن وصفه تماما بالمذكرات الشخصية لأنه يختلف من حيث التقنيات الكتابية التي تمزج بين المقالة والسرد القصصي والتأرخة القائمة على الاستذكار والكشف. فهو – إذن – سرد يأخذ أحياناً شكل مقالات مستقلة ذات مواضيع مختلفة، كتبت في مناسبات مختلفة هي الأخرى، ونشر بعضها في مواقع التواصل والصحافة الإلكترونية، وأحياناً أخرى نتابع تجارب المؤلف في خضم مرحلة الكفاح المسلح ضد النظام الاستبدادي العراقي الذي حول العراق إلى شبكة من السجون والمقابر الجماعية وسهل احتلال البلاد وقيام أكثر الأنظمة رجعية وفسادا ولا يكاد يختلف في أسلوبه الدموي في التعامل مع المحتجين المدنيين السلميين عن النظام البعثي الشمولي السابق.
ولكن هذه النصوص يجمعها من حيث الجوهر اهتمام واحد وصوت داخلي واحد همُّهُ المركزي هو أن يبوح ويروي للجيل الحالي وللأجيال القادمة من اليساريين وعموم العراقيين حكاية هذا اليسار العتيد بكل تألقاته وهزائمه، مآثره وكبواته، إنجازاته وجراحه بلسان شاب قروي جاء إلى بغداد من قريته الصغيرة “الهويدر” في محافظة ديالى ليكمل دراسته الجامعية في ثمانينات القرن الماضي، ليجد نفسه في خضم النضال الطبقي الوطني في فترة معقدة من تأريخ العراق، وليبدأ خوض تجربة سياسية كفاحية شديدة التوتر والخطورة ستأخذه بعيدا إلى جبال العراق مقاتلاً غوارياً ضمن صفوف الأنصار الشيوعيين ومناضلاً متسللا إلى تنظيمات الداخل السرية في ذروة القمع الدكتاتوري الدموي بعد انفراد صدام حسين ومجموعته بالحكم في أعقاب ما سمي مؤامرة “قاعة الخلد”، والحروب والكوارث التي مرَّ بها العراق ثم لتنتهي به مسيرته لاجئا في إحدى الدول الأوروبية.
يتأكد لنا طابع البوح والكشف للذات قبل الآخر في ما كان قد عبر عنه المؤلف في عنوان كتابه السابق “بيني وبين نفسي”، فيقول في كتابه الجديد شيئاً مشابها: “كنت في بداياتي أكتب لنفسي ص 35”. ويبدو أنه استمر باعتبار الكتابة نوعاً من التطهير والارتقاء النفسي الفردي الذي يفتح في الوقت نفسه نافذة على تجارب الآخرين ويتواصل معهم. مؤكداً وفاءه لمقولة أوسكار وايلد التي يصدر بها أحد فصول الكتاب والقائلة “الواجب الوحيد الذي يترتب علينا حيال التأريخ هو إعادة كتابته – ص75”.
كتب المؤلف عدة صفحات – ص 102 ومابعدها -عن الشهيد المقدم خزعل السعدي والذي يمت له بصلة قربى “خاله”، الذي أطلق وقاد المقاومة الشعبية في قضاء الكاظمية في مواجهة الانقلاب العسكري الدموي الذي قاده البعثيون والقوميون ضد عبد الكريم قاسم وحكومته، التي رغم اضطهادها للشيوعيين في سنتيها الأخيرتين حُسبت وما تزال تحسب على اليسار والشيوعية. وقد دفع قاسم ثمن فرديته وانفراده بالحكم من دمه ودماء رفاقه في قيادة الجمهورية الفتية ودفع معه ضحايا اضطهاده اليساريون الثمن الباهظ، ولكنهم دافعوا عنه في يوم الانقلاب الغادر عليه وحملوا السلاح في بغداد كما فعل الشهيد خزعل السعدي ورفاقه في محاولة لصد الانقلاب وإفشاله وهي محاولة لم يكتب لها النجاح لأسباب عديدة. وقد وردت في هذه الصفحات من كتاب السعدي معلومات ثمينة ومهمة إنما يعوزها التوثيق لأنها تعتمد إلى الروايات الشفهية المتداولة غالبا.
إن الضرورة القصوى للتوثيق، وخاصة في الأحداث المهمة والتي لم يسبق لأحد أن كتب عنها أو تناولها تتجدد حين يتطرق المؤلف إلى تفاصيل الاجتماع الذي عقد في بيت خير الله طلفاح وعزل خلاله الرئيس العراقي أحمد حسن البكر ص 149، فقد كان من المهم توثيق هذه التفاصيل.
ثمة فصل عن دور اليهود العراقيين – شخصياً، لا أحبذ عبارة “يهود العراق” التي تستعملها الصحافة السائدة لأنها تشي بشيء من التبعية وتقديم الهوية الطائفية على الأخرى الوطنية العراقية، وقد تنتقص من وطنية هؤلاء العراقيين الذين تمتد علاقتهم المواطنية بالعراق إلى أكثر من ألفي عام بخلاف اليهود في جميع دول العالم- في النضال التحرري والطبقي وفي بناء الحركة الشيوعية العراقية في النصف الأول من القرن الماضي وإعدام عدد منهم على أيدي السلطات الملكية الرجعية التابعة للاستعمار البريطاني والدائرة في فلكه.
ولكن المؤلف يقدم لنا جديدا على شكل تساؤل بخصوص القيادي الشيوعي يهودا صديق والذي أعدمه النظام الملكي الهاشمي العميل لبريطانيا، غير أن الإبهام والغموض أحاطا بشخصيته وسيرته في ضوء عدم اعتباره من شهداء الحزب والاحجام عن تمجيده والتوقف عند حدود ما أشيع لاحقاً من أنه ” صديق” ضعُف خلال التحقيق واعترف للجلادين ببعض أسرار رفاقه. وأعتقد أن السعدي كان محقا تماما في طرح السؤال حول حقيقة ما حدث، سيما وأن هذا الرفيق قد أعدم إلى جانب رفاقه الآخرين من قادة الحزب؛ فكيف يكون قد ضعف أو تعاون مع السلطات الملكية العميلة إذا كان لم تختلف عنه في المآل وأعدم مثلهم؟ إنَّ من الضروري في حالات خاص كهذه التعامل مع المناضلين الثوريين الذين سقطوا بين أنياب السلطات الرجعية الدموية، وخاصة أولئك الذين ضحوا بأنفسهم، بالكثير من الرهافة والحساسية والإنسانية فحتى لو كان يهودا صديق قد ضعُف للحظة خلال التحقيق معه ولكن استشهاده يكفر عنه جميع زلاته ولحظات ضعفه وينبغي التعامل معه كإنسان بمشاعر وأحاسيسي وذكريات لا كإنسان آلي خال من المشاعر والأحاسيس.
ملاحظة أظن أنها مهمة، بدا لي من المفيد إبداؤها حول هذا الفصل الذي يحمل عنوان “شيوعيون يهود في العراق”. إذْ يكتب المؤلف أيضاً أن “هيمنة اليهود على الحزب الشيوعي العراقي وتحديد مواقفه ومساراته من القضايا الداخلية والعربية ومنها قضية فلسطين جاءت بموقف مؤيد لقرار تقسيم فلسطين عام 1947. ص 255”. أعتقد أنَّ المؤلف يبالغ كثيراً بدور العناصر الشيوعية من أسر يهودية عراقية، فدورهم لا يختلف عن الدور المهم لأبناء الأقليات الأخرى والذين يفوق دورهم حجمهم السكاني غالباً في الأحزاب الثورية – وتجربة الحزب البلشفي في روسيا مثال واضح جدا على ذلك حتى أن القياديين الروس السلافيين كانوا أقلية في قيادته مقارنة بالروس من أبناء الأقليات القومية والدينية وخاصة اليهود – إيمانا منهم في أن هذه الأحزاب هي الكفيلة بضمان العدالة والمساواة المواطنية في دولتها الاشتراكية الموعودة.
أعتقد أن المؤلف لم يكن دقيقاً في تحميل الشيوعيين اليهود العراقيين مسؤولية مواقفه قيادة الحزب على قرار التقسيم. ومعلوم أنهم كانوا من المبادرين إلى رفض وإدانة المشروع الصهيوني في فلسطين فأسسوا “عصبة مكافحة الصهيونية”، وكانت قيادة العصبة في غالبيتها منهم، ورئيسها هو يوسف هارون زلخا، وهو من أسرة يهوديّة عراقيّة، وقد وجه زلخا نداءً إلى رئيس الحكومة السوفييتيّة بتاريخ 29/3/1946 ناشد فيه “الرفيق ستالين” تأييدَ “قضيّة فلسطين عندما تُطرح في الأمم المتحدة،” إذ: “لا التباسَ في حقّ شعب فلسطين العربيّ بالاستقلال، وقضيّتُهم لا علاقةَ لها بمأزق اليهود المقتَلَعين… إنّنا واثقون من أنّ حكومتَكم التي تعتمد مبادئُها وسياساتُها الخارجيّة على احترام حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، سوف تقف إلى جانب العرب في محنتهم.”. وأخيراً فمعلوم أن من هؤلاء الشيوعيين العراقيين ارتقى أول شهيد تحت علم فلسطين واسمها برصاص الشرطة الملكية وهو المناضل الشاب شاؤول طويق وهو من أسرة يهودية أيضا.
وكنت قد ناقشت مواقف الحزب عموما من القضية الفلسطينية آنذاك في مقالة بعنوان “الحركة الشيوعيّة العراقيّة والقضيّة الفلسطينيّة” نشرت في مجلة الآداب اللبنانية قبل خمس سنوات، وقد يكون من المفيد التذكير ببعض ما ورد فيها بهذا الخصوص في الفقرات التالية:
*موقف الحزب الشيوعيّ العراقيّ من قرار تقسيم فلسطين: في هذا المفصل سنحاول أنْ نتفهّمَ موقفَ الحزب ونضعَه في سياقه التاريخيّ، لا بقصد التبرير بل الفهم. فهذا الحزب لم يختلف آنذاك، من حيث تبعيّتُه الفكريّة والتنظيميّة والسياسيّة للحزب الشيوعيّ السوفييتيّ وللقيادة الأمميّة الشيوعيّة (الكومنترن)، عن سائر الأحزاب “الشقيقة.” ولكنّ الفارق، الذي يحقّ للشيوعيّين العراقيّين الفهدويّين أن يفتخروا به، هو أنه شذّ عن قاعدة الانصياع التلقائيّ للموقف الستالينيّ، ومانع كثيرًا وبقوّة، قبل أنْ يحذو حذوَ الأحزاب الشقيقة الأخرى في نهاية المطاف.
هنا نسجِّل الآتي: اختطّتْ قيادةُ الحزب الشيوعيّ العراقيّ الفهدويّة خطًّا قريباً جداً من الموقف الماركسيّ الثوريّ التقليديّ الرافضِ للحركة الصهيونيّة ومشاريعها ودولتها، وناضل طويلًا وبشجاعةٍ ضدّها. وحين صوّت الاتحادُ السوفييتيّ في الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 لصالح قرار تقسيم فلسطين، شكّل ذلك صدمةً وإرباكاً وتفتيتاً للصفوف لدى الشيوعيّين في العراق… رفضتْ قيادةُ فهد في البداية أنْ تتخلّى عن شعاراتها القديمة المعادية للصهيونيّة، ولقيام إسرائيل، ورفضت الانحناءَ للتوجّه السوفييتيّ الستالينيّ الجديد. بل هي أصدرتْ توجيهًا حزبيًّا أشارت فيه إلى تداعيات هذا التوجّه، فقالت إنّ “موقف الاتحاد السوفييتيّ بخصوص التقسيم وفّر للصحف المرتزقة ومأجوري الإمبرياليّة فرصةً لا للتشهير بالاتحاد السوفييتيّ فقط، بل أيضًا بالحركة الشيوعيّة في البلدان العربيّة.” ولذلك رأت أنّ على الحزب الشيوعيّ العراقيّ تحديدَ موقفه من القضيّة الفلسطينيّة بحسب الخطوط التي انتمى إليها، ولخّصها في أربعة مبادئ، هي كالآتي:
ــ الحركة الصهيونيّة حركة عنصريّة دينيّة رجعيّة ومزيّفة بالنسبة إلى اليهود.
ــ تقسيم فلسطين مشروع إمبرياليّ قديم يَفترض استحالةَ التفاهم والعيش المشترك بين اليهود والعرب.
ــ شكلُ الحكومة في فلسطين لا يمكن أنْ يقرّرَه إلّا الشعبُ الفلسطينيّ الموجود في فلسطين فعلًا، وسيؤدّي التقسيمُ إلى إخضاع الأغلبيّة العربيّة للأقليّة الصهيونيّة.
ــ قيام دولة إسرائيل سيؤثّر سلبًا في آمال السلام في المنطقة.
كتبت أيضا: “هناك إشاراتٌ ومعلوماتٌ في السجلّات الشيوعيّة تربط التوجّهَ المساوِم والداعي إلى تقسيم فلسطين، وبيانِ ما يسمّى “اللجنة العربيّة الديموقراطيّة” في باريس، بالدور الذي لعبه يوسف إسماعيل. وإسماعيل شيوعيٌّ عراقيّ، أقام في باريس طويلًا، وليس واضحًا إنْ كان هو محرِّرَ البيان فعلًا، ولكنّ البيانَ وُزّع في العراق في إطار العمل السرّيّ، وقد أزعج ذلك قياداتِ الحزب وكوادرَه الوسيطة، وكان فهد حينها سجينا في سجن الكوت. ويروي حنّا بطاطو ــمعتمدًا كعادته على الملفّات السرّيّة في دائرة المخابرات ــ أنّ البيان أُوصل الى داخل السجن، وحين بدأ أحدُ الرفاق السجناء في قراءته بصوتٍ مرتفع، أمره فهد بالتوقّف. أمّا القياديّ الشيوعيّ عزيز شريف، فعبّر عمّا كان يشعر به الكثيرُ من الشيوعيّين العراقيّين وأصدقائهم، واستبق بيانَ باريس فكتب:
“ليس مسموحًا أن نستمدّ مواقفَنا في القضايا الوطنيّة من الاتحاد السوفييتيّ وأنْ نعتبر أنّ سياساتِه مستوحاةٌ دائمًا من المبادئ. فالاتحاد السوفييتيّ دولةٌ تفعل وتنفعل ضمن الوضع الدوليّ. وإذا كان علينا أن نقبل دون تحفّظٍ كلّ السياسات، فإنّنا سنثير عدمَ الثقة بالحركة الوطنية بين جماهير الشعب. لقد أقيمت دولةُ إسرائيل من خلال عملٍ عدوانيٍّ على أساس الاستيلاء بالقوّة على فلسطين من شعبها صاحبِ الحقّ. وإذا كانت مقاومتنا للصهيونيّة صحيحةً قبل أن تحقّق هذه الأهداف، فلماذا يمنعوننا من مقاومتها بعد أن حقّقت أهدافها؟“
وأخيرًا رُفض بيانُ مثقّفي باريس، وأصدرت اللجنة المركزيّة للحزب بيانًا اتّهمتْ فيه بعضَ العناصر المشكوك فيها بأنّها نجحت في أنْ تدسَّ في صفوف الحزب مفاهيمَ خاطئةً بالنسبة إلى الصهيونيّة، ومن بينها بيان باريس”.
وهكذا يتجلى واضحا أن تراجع قيادة الحزب عن خط رفض التقسيم وخضوعها للموقف السوفيتي الستاليني لم يكن سهلا وسلسا ولم تكن هناك علاقة للعناصر الشيوعية اليهودية العراقية فيه بل ربما تتحمل “مجموعة باريس الانتهازية” بقيادة يوسف إسماعيل مسؤولية كبيرة عن ذلك.
في الختام، أعتقد أن كتاب الصديق محمد السعدي جدير بالقراءة المتمعنة والدقيقة ففيه الكثير من المعلومات الثمينة التي لم يسبق لأحد ان كتب عنها بشيء من التفصيل ولعل من المفيد أن يتدارك المؤلف في طبعات الكتاب القادمة موضوع التوثيقات الدقيقة للمعلومات التي أوردها في العديد من الصفحات لتكون الفائدة أعم وأشمل وأكثر جدوى وفاعلية في البحث التأريخي في هذه الأبواب التي تهم الحياة العراقية السياسية وخصوصا تجربة اليسار العراقي في العقود القليلة الماضية والتي لم ينته تأثيرها وفعلها في الحاضر حتى الآن.
*رابط يحيل إلى النص الكامل لمقالتي “الحركة الشيوعيّة العراقيّة والقضيّة الفلسطينيّة” يجد فيها القارئ هوامش توثيق المعلومات الواردة فيها: