الحركة الوطنية والتعريب
بعد الاستقلال طرحت مسألة التعليم، وبماذا ستكون لغة المدرسة والإدارة لاستبعاد هيمنة الفرنسية؟ كانت اللغة العربية هي المهيأة لذلك. فالمغاربة ظلت بالنسبة إليهم منذ الفتح الإسلامي لغتهم الكتابية. وهي التي وظفوها إبان النضال ضد المستعمر من خلال المطبوعات والمدارس الحرة. والدولة المغربية شأن كل الدول محتاجة إلى لغة وطنية كتابية. يُدين بعض المتطرفين الحركة الوطنية مُحمِّلينها مسؤولة «التعريب» لإقصاء الأمازيغية. والأسئلة التي لا يريدون طرحها هي: هل كانت «الأمازيغية» مؤهلة لتكون لغة الدولة؟ ما هي لغة الكتابة السائدة قبل الاستعمار؟ هل العربية أم الأمازيغية؟ لماذا تقارن «الأمازيغية» بالعربية؟ أليس الأجدر مقارنتها بالدارجة التي كانت متداولة أكثر منها في الحياة اليومية؟
لو أن الحركة الوطنية اختارت الدارجة، لقلنا: إن الاختيار فيه إقصاء للأمازيغية لأنها شفاهية مثلها. وأي الأمازيغيات سيتم اختيارها؟ وبأي حرف ستكتب؟ وهذه هي المشاكل التي طرحت منذ ترسيم الأمازيغية، وما تزال مطروحة إلى الآن، وستظل مطروحة إلى أجل غير مسمى. فممن كانت تتكون الحركة الوطنية؟ ألم تكن فيها كل أطياف المجتمع المغربي حضريه وبدويه، وأسماؤهم دالة عليهم: من الفاسي إلى السوسي والفكَيكَي مرورا بالتطواني والسغروشني، وسواهم؟
يكمن حقد هؤلاء على الحركة الوطنية لأنها نسفت الظهير البربري، ولأنها كانت مغربية ووطنية. والذين يتهمونها هم المتعصبون الذين يدافعون اليوم عن الظهير البربري، ويعملون بشكل أو بآخر عن إقصاء تاريخ طويل ومكتوب من اللغة العربية التي ساهم فيها كل المغاربة الذين لم يكونوا يؤمنون بالهوية كما يؤمن بها هؤلاء اليوم، وهم يحاولون استحضار تاريخ ما قبل الفتح الإسلامي، ويعتبرونه أساس هويتهم ولغتهم. فما هي علاقة أي ناطق بالأمازيغية بماسينيسا مثلا، وأشباه مثقفيهم لم يعرفوه إلا بالأمس، ثقافيا ووجدانيا؟ ولن أسأل أي مغربي عن علاقته بالإسلام. الهوية العربية الإسلامية ليست عرقية، ولا عصبية. إنها لغة وثقافة وسلوك. ولقد توحدت في نطاقها أمم وشعوب متعددة الأعراق والأديان، وكلها ساهمت فيها، وفي تاريخها لعدة قرون. وبقي التعدد قائما بين مختلف مكوناتها. وهي في القرن الحادي والعشرين هوية ثقافية تاريخية لها حضورها عالميا، بل إنها في قلب الصراع العالمي لأنها نقيض الهوية الثقافية التاريخية المتسلطة حاليا.
إن المشكلة الحقيقية التي يعمل البعض على تجاهلها، والتغاضي عنها لخلق نقاشات لا أساس لها تكمن في اللغة في حد ذاتها. ما هي اللغة الكتابية التي ظلت سائدة في التاريخ المغربي، وكتب بها كل التراث من لدن كل المغاربة؟ لا مجال لمقارنة العربية «الفصحى» بقواعها وتاريخها بأي لهجة من اللهجات المتداولة شفاها في المغرب، والتي لها أيضا تراثها وخصوصيتها الوطنية. العربية هي اللغة الجامعة. وما تبقى لغات متنوعة بتنوع المناطق والقبائل التي تتحدث بها يوميا. إن المقارنة بين العربية والأمازيغية مجحف ومضلل. لا يمكن مقارنة لغة موحدة كتابية بلغات شفاهية. إن المقارنة المناسبة هي بين الشلحة والأمازيغية والريفية والدوارج المغربية حسب المناطق. هذه هي اللغات الأم لكل المغاربة. أما العربية الكتابية فليست لغة أمِّ أحد. ومن لا يتعلمها لا يمكنه أن يكتب أو يقرأ بها سواء كان ناطقا بالدارجة أو الأمازيغية. إبان تحضير دستور 2011 الذي حرفت دواعيه عن مقاصدها الشعبية الحقيقية، واستغلها كل ذي مآرب لعرض أهوائه، طرحت مسألة الدارجة، وكان هناك من يدافع عن ترسيمها أيضا؟ إن مقارنة لغة كتابية بأي اللغات الشفاهية لا أساس له. لماذا فرضت لغات المستعمر نفسها على الشعوب التي لم تكن لديها لغة كتابية؟ ولماذا يعمل الآن المعهد الملكي للأمازيغية على خلق لغة أمازيغية «معيار» لتكون لغة جامعة وكتابية وموحدة؟
لم تكن الحركة الوطنية تطرح سؤال اللغة. ولا ما هي اللغة التي يجب اتخاذها لغة للتعليم والإدارة. فمن لها مغزل لا تطلبه من جارتها؟ أما العربية الفصحى فذات تاريخ، وهي التي كتب بها كل المغاربة، التراث المغربي العام، وتاريخ مناطقهم الخاصة: السوسي، بنزيدان، داود، وغيرهم. ولم يكن في هذا إحساس بالهوية الخاصة، ولكن كانت وراءه الكفاية والدراية المعرفية بالمناطق. كانت لغة المستعمر هي السائدة، ولذلك لم تطرح مقررات التعليم أي مشكلة في تدريس الفرنسية والمواد العلمية. لكن العربية، وهي لغة كتابية، ولها قواعدها وتراثها كانت تدرس في المدارس الحرة والكتاتيب. ومع ذلك استدعت الضرورةُ الاستفادةَ من التجربة العربية سواء في المقررات، أو من يقوم بتدريسها. وحتى أواخر السبعينيات ظل الكثير من الأساتذة العرب هم من يضطلع بها. بل إن مادة التاريخ والجغرافيا لم تُعرَّب إلا سنة 1976، أي بعد مرور عقدين من الزمان.
لنفرض جدلا أنه بعد الاستقلال اتفق المغاربة على الأمازيغية لغة للتعليم والإدارة. فما هي المشاكل التي سيواجهونها، وهم يعملون على تأسيس دولة حديثة؟ وأي أمازيغية سيتفقون عليها؟ وما هي المواد التي سيدرسونها بها؟ إن المجتمع المغربي مسلم. فهل سيعتمدون ترجمة كل التراث المكتوب بالعربية إلى الأمازيغية ليكون ذلك متصلا بلغتهم؟ أم سيدرسون الإبداعات الشعبية؟ إن كل الادعاءات حول «سياسة التعريب» واهية، ولقد كانت في البداية من ترويج الفرنكوفونيين، وهي الآن أسطورة بعض الأمازيغويين؟
لنقل، جدلا، أخطأت الحركة الوطنية ومعها اليسار. فهل تعرَّب تعليمنا؟ صرنا ندرس الأمازيغية الآن، فما هي المشاكل الحقيقية التي تعترضها؟ تراجعنا عن تعريب تدريس العلوم فماذا كانت النتيجة؟ فهل درسنا تلامذتنا العلوم بالأمازيغية؟
مشكلة التعليم في المغرب جزء من مشاكلنا السياسية والاجتماعية، وما زلنا إلى الآن لا نريد الاتفاق على كيفية حلها لأن أطرافا خارجية وداخلية تتدخل فيها. ربط التعريب بإقصاء الأمازيغية، وبالهوية، وهْم متعصبين، ولا علاقة له بالواقع. منذ الفتح الإسلامي فتحت صفحة تاريخية جديدة في الشمال الأفريقي، وصارت الهوية الثقافية التاريخية هي الهوية العربية الإسلامية التي شارك فيها كل المغاربة طيلة عدة قرون. هذه الهوية لا علاقة لها بالجينات، ولا بالعرق الصافي الذي لم يتلوث بغيره؟ عكس هذا التصور الذي يدافع عن الهوية باسم «السلفية العرقية» يكتب يوسف توفيق: «إن التعدد كان منذ العصور الغابرة سمة تميز الثقافة المغربية، ولم يسبق للمغاربة أن نظروا بعين الريبة إلى أي مكون لغوي أو ثقافي. بل تقبلوا كافة العناصر اللغوية والثقافية الوافدة، واحتضنوها وأبدعوا من خلالها في جميع المجالات التعبيرية والأدبية والفنية بدليل الغنى الكبير الذي نشهده في الأشكال التعبيرية والفنية والفرجوية. وهو رأسمال رمزي ينبغي استثماره بما يعود بالنفع على البلاد والعباد».
إن قيمة هذا الرأسمال الرمزي، حين يضاف إليه انتماؤه إلى، ومشاركته في تراث ثقافي وحضاري عربي ـ إسلامي عريق، يجعل المغرب جزءا من أمة لها حضورها، ومكانتها في العالم المعاصر، وأي دعوة لعزله عن هذا التراث، سواء عُبِّر عن ذلك بوضوح أو بمواربة، فليست سوى خدمة لمن يسخرونهم لذلك في إطار الصراع الحالي في المنطقة. لا يمكن لأي هوية خاصة ألا تكون لها علاقة بهوية أعم في وضع عالمي مبني على التكتلات والتحالفات.
صرنا نتحدث الآن عن الإنكليزية، فأين التعريب؟ والتمزيغ؟ والفرنسة؟ لماذا لا نعتبر هذا ضد الأمازيغية؟ وضد العربية؟ وضد الفرنسية؟ وها هي الصينية تطرق أبواب جامعاتنا، وتستثير تلامذتنا، فأين هي هويتنا اللغوية و