طوفان الأقصى
صراع الإرادات والعقول
د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عربي من العراق
تمهيد
لم تكن عملية “طوفان الأقصى” حدثًا عابرًا في المواجهة المستمرة منذ ثلاثة أرباع القرن، بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال “الإسرائيلي”، بل تعتبر حدثًا مفصليًا في تاريخ الصراع، فما بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 سوف لا يشبه ما قبله.
واجهت غزّة التي تبلغ مساحتها 365 كم2، لا تعادل سوى 2% من مساحة فلسطين البالغة 27 ألف كم2، حربًا عالمية بكلّ معنى الكلمة، وتعرّضت إلى إبادة شاملة في ظلّ دعم غربي لا محدود، تبريرًا وتسويقًا للعدوان في الأمم المتحدة وخارجها، تحت حجّة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. فكيف يمكن فهم ما حصل؟
زمام المبادرة
بدأت عملية طوفان الأقصى بمباغتة فائقة البراعة، ليلة عيد الفرقان “الإسرائيلي”، حين اقتحمت قوات المقاومة “حماس”، المواقع “الإسرائيلية” في غلاف غزّة، بسرعة مذهلة ودقيقة في الساعة الثالثة صباحًا، في 22 موقعًا عسكريًا، وخلال ثلاث ساعات تمكّنت من اغتيال بضع مئات من الضباط والجنود “الإسرائيليين”، واقتادت ما يزيد عن 100 “إسرائيلي”، بمن فيهم اثنين من العسكريين من جهاز “الشين بيت – شاباك” (المختصّ بالأمن الداخلي، والذي يتبع لرئيس الوزراء مباشرةً)، وعدد من الأجانب، لاحتجازهم كأسرى، أطلقت سراح بعضهم (من المدنيين وحملة جنسيات أخرى)، في عملية تبادل للأسرى، واحتفظت ببعضهم الآخر، ولاسيّما العسكريين، ضمن خطة للضغط على “إسرائيل” لتحرير الأسرى الفلسطينيين من السجون “الإسرائيلية”.
وتكمن أهمية عملية طوفان الأقصى في امتلاك زمام المبادرة أولًا، وثانيًا، ما حققته من اختراق نظرية الأمن “الإسرائيلي“، التي ظلّت مهيمنة لعقود من الزمن، وكيف أُخذ “الإسرائيليون” على حين غرّة؟ ويعود ذلك، في جزء كبير منه، إلى دقة التخطيط والتنفيذ والمعلومات الاستخبارية، حيث تم تحديد المعركة والمبادءة في اختيار لحظة الهجوم، وتكاد تكون هذه العملية الجريئة الكبرى والأولى، التي تدار فلسطينيًا بعد حرب تشرين الأول / أكتوبر1973 التحررية، التي حاولت فيها القوات المصرية والسورية مواجهة نظرية الأمن “الإسرائيلي”، حين اختارت هي تحديد لحظة المواجهة، وبدء المعركة، في حين كانت “إسرائيل” في المعارك الأخرى، هي التي تفرض المعركة بشنّها العدوان.
أركان نظرية الأمن “الإسرائيلي”
ساهمت عملية طوفان الأقصى في خلخلة الأركان التي تقوم عليها نظرية الأمن “الإسرائيلي”؛ وأهمها:
أولها – حرب المعلومات: التفوق الاستخباري، ففي جميع حروب “إسرائيل” ابتداءً من حرب العام 1948 أو في العدوان الثلاثي العام 1956 (الإنكلو – فرنسي “الإسرائيلي”) أو في عدوان 5 حزيران / يونيو المعروف ﺑ “الأيام الستة” العام 1967 أو في الحروب على لبنان وغزّة وغيرها، كانت الاستخبارات “الإسرائيلية” الموساد، (جهاز الاستخبارات الخارجي، الذي يرتبط برئيس الوزراء مباشرة)، تمتلك معلومات أكثر مما يمتلكه الجانب العربي والجانب الفلسطيني بكثير، بل إن المعلومات الاستخبارية العربية والفلسطينية، كانت شحيحة جدًا، لكن عملية طوفان الأقصى أظهرت هشاشة التفوق الاستخباري والأمني “الإسرائيلي”، حين هاجمت قوات فلسطينية فدائية، لا تزيد عن بضعة مئات، أكثر من عشرين ألف عسكري “إسرائيلي”، وعرضتها للانكشاف، والفضل يعود، في جزء كبير منه إلى الدقة الاستخبارية الفلسطينية والحصافة الأمنية، وخطط التمويه والإيهام، التي قامت بها بسرية كاملة، ناهيك عن الشجاعة في اتخاذ القرار والتنفيذ، على الرغم من امتلاك الاستخبارات “الإسرائيلية” آخر اختراعات العلم وابتكارات التكنولوجيا.
لقد تمكّنت استخبارات المقاومة، على بساطتها وقلّة إمكاناتها، من الحفاظ على سريّة عملها وتحديد ساعة المواجهة، وإنزال ضربة مفاجئة وغير محسوبة بالمنظومة الاستخباراتية والأمنية “الإسرائيلية”، التي لم تكتشف خطة المقاومة، سواء في اتخاذ القرار، أو في التنفيذ والإداء بإعداد محكم ورصين لهذه العملية، التي استغرقت نحو عام من التحضير المضني.
وثانيها – حرب العلوم: التفوّق العلمي والتكنولوجي، وهذه هي الأخرى تمّ التغلّب عليها، حين اختارت المقاومة لحظة الهجوم، وهكذا كانت الإرادة والحق في مواجهة التكنولوجيا والباطل، فلم ينفع ادّعاء “إسرائيل” بامتلاكها أسرار الذكاء الاصطناعي، وتفوقها على الفلسطينيين والعرب، وتصنيف نفسها كدولة متقدمة، فقد تمكنت المقاومة بأدوات وأسلحة بسيطة، وخطة محكمة، أن تحقق نتائج مذهلة، وأنزلت ضربة غير متوقعة بالقوات “الإسرائيلية”، علمًا بأنها تمتلك أسلحة متطوّرة ومعدّات واستعدادات وتهيئة، ومنظومات دفاع مدعومة غربيًا، وخصوصًا من جانب الولايات المتحدة، كما حافظت المقاومة، طيلة الفترة المنصرمة، على سريّة بناء الأنفاق، وجهزتها بأسباب الحياة دون أن تعرف “إسرائيل” وعملائها، فضلًا عن أنها، حتى بعد اجتياح غزة، لم تتمكن من الوصول إليها.
لقد أظهرت، عملية طوفان الأقصى، “إسرائيل” عارية على الملأ، لدرجة أخذت تستنجد بحلفائها لدعمها، وقامت بعد ذلك بعملية انتقامية في حرب إبادة مفتوحة مثّلت فضيحة للضمير العالمي، وكشفت بما لا يدع مجالًا للشك عن زيف إدّعاءات بعض دعاة حقوق الإنسان وقيم العدالة والحريّة على المستوى العالمي.
وتمكّنت المقاومة خلال هجومها من الحصول على أسرار ومعلومات خطيرة، لا تتعلّق بالجوانب الأمنية والاستخباراتية فحسب، بل على بعض أسرار المنظومة الدفاعية “الإسرائيلية”، وذلك بوضع يدها على كومبيوترات ومعلومات مخزونة وأرشيف كبير، سواء عنها أو عن بعض “المتعاونين” مع “إسرائيل” أو عن المنظومة “الأمنية الإسرائيلية”.
وثالثها – حرب الإرادة، وهذه مرتبطة بالسياسة من جهة و بالعقيدة العسكرية من جهة أخرى، فقد كانت “إسرائيل” تدرك أن النجاح في الحرب يعتمد على قرار سياسي أولًا وخطة عسكرية ثانيًا، وسيكون تحديد نتائجها للأقوى، ولذلك كانت دائمًا ما تبدأ بتحديد مكان وزمان المعركة ، وتضع الخطط المسبقة لذلك، ولكن المقاومة، هذه المرّة، كانت هي المبادرة، وهي التي حددت مكان المعركة وزمانها، فألهبت حماسة فلسطين بكاملها، بما فيها داخل الأراضي المحتلة وعرب اﻟ 48، كما يقال، ناهيك عن الضفّة والقدس، وعموم مناصري العدالة والحق على المستوى الكوني.
وسعت المؤسسة السياسية والعسكرية “الإسرائيلية”، طيلة ثلاثة أرباع القرن، الإبقاء على تفوّقها من جهة، والعمل على تفكيك وإفشال أية محاولة لإعادة بناء القدرات الفلسطينية، عن طريق استراتيجية ما يسمى “قصّ الثيّل” أو “جزّ العشب“، وخلال العقدين المنصرمين عمدت “إسرائيل” إلى شنّ 4 حروب كبرى على غزّة بعد حصارها منذ العام 2007، وقبل عملية طوفان الأقصى، وهذه الحروب العدوانية هي:
الأولى في 27 كانون الأول / ديسمبر 2008 أسمتها “إسرائيل” “الرصاص المصبوب“، أما حماس فأطلقت عليها اسم “حرب الفرقان“، واستمرّت إلى يوم 18 كانون الثاني / يناير 2009.
والثانية في 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2012 ، وأسمتها “إسرائيل” “عامود السحاب“، ودعتها حماس “حجارة السجّيل” واستمرّت 8 أيام.
أما الثالثة في 7 تموز / يوليو 2014 وأطلقت عليها “اسرائيل” اسم “الجرف الصامد” أما حماس فأطلقت عليها “العصف المأكول” واستمرتّ 51 يوماً، حيث توقّفت في 26 آب / أغسطس 2014 .
والرابعة، في أعقاب “أحداث حي الجرّاح” في القدس والتي شهدت مواجهات بين سكانها والسلطات “الإسرائيلية”، فانتفضت غزّة وكل فلسطين ما بعد الخط الأخضر تضامناً مع سكان حي الجرّاح في القدس، وشنّت “إسرائيل” عملية عدوانية كبرى أسمتها “عملية حارس الأسوار“، في حين أطلقت عليها حماس “معركة سيف القدس 2021“، حيث بدأ العدوان في 6 أيار / مايو 2021، وتوقّف إطلاق النار بوساطة دولية قادتها مصر في 21 أيار / مايو 2021.
وهكذا كانت “إسرائيل” في حالة “استرخاء” لاعتقادها أن المقاومة لا يمكنها شنّ حرب عليها بسبب الحصار والتجويع ومحاولات التفكيك المستمرة. ولعلّ ما يعزّز مثل هذا الاعتقاد هو بناء الجدار العازل اللّاشرعي واللّاقانوني واللّاإنساني. وبسببه كانت “إسرائيل” تشعر أنها أكثر “أمنًا”، خصوصًا وأن أية محاولة لاجتيازه تستهلك طاقة الفلسطينيين، حيث يبلغ طوله 770 كلم، وتم بناء 406 كلم منه، أي 52.7%، ويتراوح عرضه من 60– 150 مترًا في بعض المواقع، وبارتفاع يصل إلى 8 أمتار، وخندق يصل عمقه إلى أربعة أمتار لمنع مرور المركبات والمشاة، علمًا بأن محكمة العدل الدولية أصدرت قرارًا استشاريًا في 9 تموز / يوليو 2004 بعدم شرعية الجدار.
ورابعها – وحدة القرار والتنفيذ (الإرادة والعمل): المقصود بذلك التفوق بوحدة القرار السياسي والعسكري والإعلامي، وهو ما عرفته جميع الحروب “الإسرائيلية”، باستثناء ما بعد عملية طوفان الأقصى، فكان الانشقاق واضحًا، فبنيامين نتانياهو يلوم المؤسسة العسكرية والأمنية بسبب عدم معرفتها بخطة طوفان الأقصى، سواء في مرحلة التخطيط أو الإعداد أو حين التنفيذ، وهذا يعني فشل المنظومتين الأمنية والعسكرية، في حين أنهما يلقيان اللوم على نتانياهو لتوريطهما في حرب مفتوحة والخسائر التي منيت بها “إسرائيل”، وكلاهما يترصّد للآخر، فنتانياهو يريد زجّ الجيش بمعارك لا حدود لها، حتى لو سقط المئات من الجنود والضباط في هذه المعركة، بما في ذلك لو تم التضحية بالأسرى “الإسرائيليين”، طالما تؤدي إلى استمرار الحرب، لأنه يريد أن يظهر بمظهر “البطل”، كي يحمي نفسه بعد انتهاء المعارك من المثول أمام العدالة بتهم الفساد والتزوير، وبالمقابل، تترصّد له المؤسسة العسكرية والأمنية، التي تريد إنهاء المعارك حقنًا لدماء الجنود واستعجالًا بمحاكمته.
ولعلّ ما أوقع “إسرائيل” في هذا الصراع، هو ازدياد حالات التذمر الشعبي، خصوصًا ضغوط عوائل الأسرى، والخسائر التي تعرّضت لها خلال عملية اجتياح غزّة، وذلك بعد تجريف الأجزاء الشمالية منها ودفع سكانها للهجرة إلى رفح باتجاه الحدود المصرية، فبعد أن كانت جميع الحروب “الإسرائيلية” تحظى باتفاق عام من الجيش والمستوطنين وسكان “إسرائيل”، فإن هذه الحرب أظهرت الانقسام الحاد بين حكم معزول ورئيس وزراء متّهم وجيش متذمّر، ومؤسسة أمنية مرتبكة، والأكثر من ذلك فإن الانقسام الشعبي والاصطفافات ضدّ حكومة نتانياهو التي سبقت الحرب ازدادت عمقًا، وآخرها امتناع وزراء من حضور اجتماعات مجلس الوزراء، وإعلان قادة عسكريين سابقين عن موقف مناقض لمواقف نتنياهو، وقرار جديد من المحكمة العليا بالتحقيق فيما حصل بطوفان الأقصى، حتى قبل انتهاء المعارك، وتلك مسألة تحدث لأول مرّة.
الحرب النفسية
لم تخلخل عملية طوفان الأقصى نظرية الأمن “الإسرائيلي” فحسب، بل عملت على تبهيت صورة الجيش “الإسرائيلي” ، الذي لا يقهر وأسطورته، والذي يُقال عنه أقوى رابع جيش في العالم من حيث القدرات القتالية، والجيش الثامن عشر دوليًا، وهكذا انهارت صورة الردع “الإسرائيلي”، فالمحاصَرون والمجوَّعون انتصروا في لحظة تاريخية فارقة أذهلت العالم، الأمر الذي أدّى إلى استنفار حلفاء “إسرائيل”، الذين تسابقوا إلى تقديم النجدة العاجلة لها، والحج إلى تل أبيب حيث وصلها الرئيس الامريكي جو بايدن ووزير خارجية الولايات المتحدة بلنكن ووزير دفاعها أوستن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك والرئيس الألماني فرانك شتاينماير ورئيس إيطاليا سيرجيو ماتاريلا، وهو ما وفّر لها غطاءً معنويًا لشن الحرب المفتوحة على المدنيين، ورفض أي مطالبة بوقف العدوان، ترافقًا مع الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، بحجّة:
- استعادة الرهائن.
- القضاء على قادة حماس وتفكيك بنيتها التحتية وإخماد أي صوت للمقاومة.
- فرض سلطة أمنية جديدة على غزّة، صديقة “لإسرائيل”.
- تشطير غزّة ببناء حاجز يفصل بين شمالها وجنوبها.
- تغيير نمط تفكير من يتبقى في فلسطين بتسفيه فكرة المقاومة، وإظهار عدم جدواها لقبول الأمر الواقع.
ودارت دورة الحرب النفسية الناعمة أيضًا في محاولة استبدال الوعي بالنصر لتحويله إلى موت ودموع ومأسي، وذلك بعد فشل “إسرائيل” في تحقيق أهدافها المعلنة، فضلًا عن فشلها في تسويق روايتها بخصوص قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، وكأن همّ المقاومة ذلك، ناهيك عن أن العملية كلّها استغرقت 3 ساعات، فكيف يمكن أن يحدث ما هدفت “إسرائيل “إلى تسويقه؟ وللأسف فإن رئيس أكبر دولة في العالم، جو بايدن، ردّد ذلك، وعاد واعتذر عند قصف “مستشفى المعمداني“، باتهام جهات موالية لإيران، ثم ثبت أن الصاروخ أمريكي وهو مستخدم لدى جيش الدفاع “الإسرائيلي”.
ومثل هذا الأمر ينبغي وضعه ضمن خطط المقاومة، لاسيّما استخدام كلّ ما يتعلّق بوسائل الحرب الناعمة، ووفقًا للذكاء الاصطناعي واقتصادات المعرفة.
المحطة الثالثة للمشروع الصهيوني
إن هدف رسالة الردع “الإسرائيلية” هو الإرهاب، ولذلك انفلتت عمليات التهديد لدرجة أن الأمر وصل إلى بيروت، التي هُدّدت بمصير غزّة، وبدأت مع ذلك المحطة الثالثة للمشروع الصهيوني، فقد كانت المحطة الأولى هي إقامة “إسرائيل” العام 1948 بعد قرار التقسيم من الأمم المتحدة (1947).
ثم المحطة الثانية وهي احتلال كامل فلسطين، بما فيها القدس العام 1967، وضمها بقرار من الكنيست إلى “إسرائيل” (1980)، واعتبارها “عاصمة أبدية موحدة لها”.
أما المحطة الثالثة، فهي التي بدأت مع طوفان الأقصى في العام 2023، بشن حرب إبادة ومجازر مروعة، باعتبار أن الفلسطينيين “حيوانات” يمكن تسويتهم بالأرض بهدف التهجير (ترانسفير)، والسيطرة على الأرض مجددًا (إعادة الاحتلال)، وتلك صفحة جديدة من صفقة القرن، التي يمكن شمولها لدول عربية أخرى، مثل الأردن (حسب ليبرمان) وسوريا ولبنان ومصر والسعودية والعراق واليمن، وإن كانت على مراحل.
وإذا كانت المحطتان، الأولى والثانية، قد مرّتا، وحققت “إسرائيل” جزءًا من أحلامها التوسعية، فإنه بعد عملية طوفان الأقصى، بدى الأمر مختلفًا، على الصعيد الفلسطيني اولًا، وهو ما سيترك تأثيره عربيًا لاحقًا، وسيكون الأمر مؤثرًا كذلك على المستوى العالمي، فبعد أن خفت الحديث عن حلّ الدولتين، وطويت المبادرة العربية (بيروت 2002)، “الأرض مقابل السلام“، التي تعاملت معها “إسرائيل” باستخفاف كبير، ومعها حليفتها واشنطن، والتي كانت تريد من العرب “التسليم بالأمر الواقع” وركوب قطار التطبيع بلا عودة، وإذا بحديث الدولتين يعود بقوّة على المستوى العالمي، ويتصاعد الكلام في الأمم المتحدة وخارجها عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، طبقًا للقرارات الدولية.
سيناريوهان
شكل الارهاب جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الصهيونية، منذ ولادتها في نهاية القرن التاسع عشر، ونظر لها عرابوها من هيرتزل إلى جابوتينسكي، وتقوم الفلسفة الصهيونية على الإرهاب كنظرية عمل ونظرية حياة انطلاقًا من اعتبار “اليهود شعب الله المختار“، والشرط الجوهري لبلوغ ذلك، ليس سوى الإرهاب والعنف لمواجهة الوحوش الضارية، حسب هيرتزل، ووفقًا لجابوتينسكي تحطيم كل من يقاوم الصهيونية.
لا أحد يستطيع أن يقدّر متى ستنتهي الحرب وكيف ستنتهي؟
سيناريوهان يتصدّران المشهد، في الممكن وغير الممكن على المدى المنظور، أحدهما “إسرائيلي“، والآخر “فلسطيني“، الأول عاد بقوّة بعد عدم إمكانية تحقيق نصر عسكري على الأرض، إلى ممارسة الاغتيالات، والتي هي جزء من الفلسفة الصهيونية، فقد لجأت “إسرائيل”، خلال حرب الإبادة، إلى اغتيالات خارج دائرة العمليات الحربية فأقدمت على اغتيال رضا موسوي في دمشق وصالح العاروري (القيادي في حماس) في بيروت وقيادي من حزب الله في الجنوب اللبناني، وتزامنًا مع ذلك، اغتالت القوات الأمريكية مشتاق طالب السعيدي في بغداد من (الحشد الشعبي)، في إطار عمليات الانتقام من طوفان الأقصى.
السيناريو “الإسرائيلي” يريد استثمار التهجير القسري لإحداث تغيير ديموغرافي كي ما يؤدي إلى تغيير جيوسياسي، وذلك في الوعي والثقافة في الحاضر والمستقبل لإسدال الستار على القضية الفلسطينية لتصبح “ذكرى” أو “تاريخ”، والتمهيد لذلك يتم عبر تقطيع أوصال غزه، وتهجير سكانها وإيجاد من يقبل التعامل مع “إسرائيل”، وصولًا إلى إنهاء القضية الفلسطينية، فعلى الرغم من مرور أشهر على شروع “إسرائيل” بحرب إبادة، فقد اضطرّت إلى سحب 5 فرق جديدة خارج غزّة، بعد فشلها من تحقيق أهدافها، كما سحبت لواء نخبة النخبة من الجولان، في محاولة لإعادة الانتشار، خصوصًا في ظلّ الضغوط التي تعرّض لها رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو، والصراع بين القرار السياسي والقرار العسكري، بالرغم من الحرب المفتوحة، التي شنّتها “إسرائيل” على شعب أعزل،
أمّا السيناريو الثاني (الفلسطيني)، فإنه يقوم على إرغام “إسرائيل” على الحدّ من الاعتداءات على المسجد الأقصى، التي تكرّرت خلال السنوات الأخيرة، منذ محاولة حرقه في العام 1969 على يد مايكل دينيس روهان، وهو متطرّف من أصل أسترالي، إلى اليوم، علمًا أن المسجد الأقصى ليس رمزًا إسلاميًا فحسب، بل هو رمز تاريخي كوني، وهو ما أظهرته اليونيسكو يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 خلال اجتماع في العاصمة الفرنسية باريس بقرارها رقم 200، الذي ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بـالمسجد الأقصى وحائط البراق، ويعتبرهما تراثًا إسلاميًا خالصًا، بالضدّ من ادّعاءات “إسرائيل” وحفرياتها لإثبات عكس ذلك بزعم “وجود الهيكل”.
ومن نتائج طوفان الأقصى، وقف قطار التطبيع، التي سارعت إلى ركوبه بعض الدول العربية، ظنًا منها أنه يمكن أن يساهم في عملية السلام في المنطقة، فضلًا عن الوقوف ضدّ مخطط تصفية القضية الفلسطينية، الذي كان يُراد له، في إطار صفقة القرن أن يدخل مرحلة التنفيذ لإنهاء فكرة قيام دولة، والقبول بالأمر الواقع ليصبح واقعًا، ومن النتائج الأخرى المحتملة، ضمن السيناريو الفلسطيني، إنهاء الحصار المفروض على غزة والذي يستمر منذ نحو 17 عامًا، فلم يعد ذلك مقبولًا ، ولا بدّ من التفكير في مسارات أخرى، خصوصًا بعد أن ساهمت عملية طوفان الأقصى في كسر نظرية الردع “الإسرائيلي”، فضلًا عن التحوّل الكبير في الرأي العام العالمي لصالحها، حتى أن جنوب أفريقيا قدّمت طلبًا إلى محكمة العدل الدولية بشأن فتوى استشارية بخصوص ارتكابات “إسرائيل” في غزّة.
فأي السيناريوهين سيكون قريبًا من الواقع؟
لعل دروس تاريخ المقاومات تعلّم أن القوّة العسكرية والجيوش النظامية مهما أوتيت من جبروت وقوّة وامكانات علمية وتكنولوجية واستخباراتية، فإنه ليس بامكاننا تحقيق النصر على الشعوب الحرّة المكافحة من أجل استقلالها وحريتها وحقها في تقرير مصيرها، ومثالنا الحرب الأمريكية على فيتنام (1962- 1975)، حيث اضطرت في نهايه المطاف إلى تجرّع طعم الهزيمة على الرغم مما ألحقته من خسائر بالفيتناميين.
صحيح ان الحرب غير متكافئة، حيث لا يمكن قياس التفوق العسكري “الإسرائيلي” بإمكانات المقاومة الفلسطينية عسكريًا، لكنها فشلت في القضاء على حماس، بل أن الأخيرة أعادت طرح القضية الفلسطينية كمحور للصراع في المنطقة، بل قضية عربية مركزية، ويعكس الاهتمام الإقليمي والدولي بها شعوبًا وحكومات، ناهيك عن الرأي العام العالمي، بأنه لا بدّ من حلّ عادل ومقبول، يؤدي إلى إنهاء الاحتلال إن آجلًا أم عاجلًا.
ويعود الفضل في كشف الوجه العنصري “لإسرائيل”، بكل سفور ودون براقع أو تزيين، إلى المقاومة، لدرجة أن نفورًا حصل في الرأي العام اليهودي داخل الولايات المتحدة، والذي كان باستمرار مؤيدًا “لإسرائيل”، وإذا بأعداد كبيرة من الشباب، أخذت تطالب بوقف الحرب، وتحمّل إستمرارها “لإسرائيل”، وتلك من الظواهر الجديدة التي أفرزها العدوان على غزّة، والبشاعة التي استخدمت فيها.
إن عملية طوفان الأقصى، وردّ الفعل “الإسرائيلي”، إنما هي صفحة جديدة ومهمة في صراع الإرادات والعقول، حيث تكون المطاولة فيها متنوّعة ثقافيًا وقانونيًا وديبلوماسيًا وسياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا وعسكريًا ونفسيًا، حيث لا تنتهي المعركة بجولة واحدة، لأنها طويلة الأمد، ولكن النتيجة لن تكون إلّا لصالح الشعوب مهما طال أمد الصراع.