حارس الازدهار وغياب العقلانية الأمريكية
حارس الازدهار.. هذا هو الاسم الذي أطلقته وزارة الدفاع الأمريكية على التحالف الدولي، لمواجهة الهجمات، التي تتعرض لها السفن التجارية في البحر الأحمر، والمتجهة إلى إسرائيل. وعلى الرغم من أن الوزارة، أعلنت بأن أكثر من عشرين دولة وافقت على المشاركة في هذا التحالف، لكن العديد من مسؤولي تلك الدول عبّروا عن تحفظات في هذا الشأن، بل إن بعضهم سارع إلى القول إنهم ليسوا منخرطين بشكل مباشر في الأمر، على الرغم من اهتمامهم بحماية مرور السفن التجارية في البحر الأحمر. ولعل إسبانيا أبرز مثال على ذلك، فبعد أن أعلنت الولايات المتحدة عن مشاركة هذه الدولة في التحالف، أكد رئيس الوزراء الإسباني أن بلاده تعارض استخدام القوة البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي تحت هذه المظلة، فما هي الأسباب التي تقف وراء عزوف الدول عن المشاركة؟
يبدو أن هذا التحالف عليه علامات استفهام كبيرة جدا من قبل العديد من الدول، فالولايات المتحدة الأمريكية دائما ما تحقق مصالحها في بقاع الأرض، من خلال تحالفات، وهذا الموضوع بدأ منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وما زال مستمرا لحد اليوم. والسبب في ذلك هو إعطاء الشرعية لوجودها في الساحات الدولية. ولأن هذه التحالفات هي تحالفات عسكرية، فهي تسلك هذا الطريق كي تنفي عن نفسها البُعد الاستعماري، والتدخل العسكري والسياسي.
وعلى الرغم من أن وزير الدفاع الأمريكي أكد أن هذا التحالف الجديد هدفه حماية التجارة الدولية في البحر الأحمر، وضمان حرية الملاحة، وتعزيز الأمن الإقليمي، إلا أن التزام واشنطن بإنشاء هذا التحالف الدولي، هو في واقع الأمر للدفاع عن مصالح إسرائيل المنشغلة بعدوانها على غزة، وغير القادرة في الوقت الحالي على فتح جبهة أخرى في البحر الأحمر، بالتالي تركت إسرائيل لحليفتها واشنطن مهمة التعامل مع الجبهات الأخرى.
الموازنة بين وصول بضائع ومقتل أبرياء موازنة ظالمة، والاهتمام الأمريكي يبدو منصبا على حصول الإسرائيلي على بضاعته، ولكنه يُترك الفلسطيني مقتولا وجائعا ومُهجّرا أو كلها معا
ويبدو أن الدعوة الأمريكية لإنشاء تحالف بهذا الحجم والكثافة من الناحية العسكرية أمر مبالغ فيه كثيرا، فجماعة الحوثي لا تمتلك أي سفن بحرية أو غواصات، بالتالي ماذا يمكن أن يضيفه هذا التحالف للقوة الدولية الموجودة أصلا في الممرات المائية.
إن رفض إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من الدول، خاصة دول الخليج عدا البحرين، الاستجابة للطلب الأمريكي بالانضمام للتحالف، وهي دول حليفة لواشنطن، وبعضها أعضاء في حلف الناتو، يدل دلالة واضحة على التململ من الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل في حربها على غزة، وعليه باتت هنالك خشية من أن انضمام هذه الدول إلى قوة العمل الأمريكية هذه، يعني دعما لإسرائيل. كما أن هناك حالة من الشعور بالقلق لدى تلك الدول من أن التحالف مع واشنطن في هذا المجال يجعلها هدفا أكبر. يضاف إلى ذلك أن الحكومات الأوروبية لا تريد المجازفة بالمشاركة في هذه العملية العسكرية، خوفا من أن ينقلب جزء من حاضنتها الانتخابية الذين لا يؤيدون إسرائيل ضدها، لذلك هي فضّلت العمل بمفردها خارج «تحالف الازدهار».
لا شك في أن التجارة الدولية التي تمر عبر البحر الأحمر تبلغ ما بين 10 ـ 15% من التجارة العالمية، وأن ضمان سلامة الملاحة الدولية أمر حتمي ومُلزم على جميع الدول، وهذا يأتي في إطار الرؤية التي تقول إن التحالفات تنشأ وتقوم بعملها، من أجل درء المخاطر التي يمكن أن تؤدي إلى عدم استقرار على مستوى العالم. إذن تعريض البضائع التي تصل إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر لبعض الزيادة في رسوم التأمين، تراها واشنطن جريمة خطيرة جدا، ويدعون دول العالم لحشد الطاقات العسكرية من أجل تأمين وصولها. أما التدمير الممنهج لقطاع غزة، والتسبب بمقتل عشرات الآلاف من الأبرياء، والتحضير لنكبة فلسطينية أخرى، فيرونه أمرا ثانويا، لابد من تركه وشأنه، على الرغم من أن العقلانية والمنطق، يؤكدان أن هذا الإهمال للجريمة القائمة اليوم في غزة، يؤسس للصدام ولعدم الاستقرار على مستوى العالم، وليس على مستوى المنطقة وحسب، لأجيال قادمة. ويبدو واضحا أن الولايات المتحدة قررت أن هذا شأنا إسرائيليا داخليا ربما، لا بل التمكين لإسرائيل للقيام به، هو الأمر الواقع الذي نراه على الأرض. أما رفع كلفة البضائع الواصلة الى إسرائيل، من خلال زيادة رسوم التأمين عليها، فيبدو أنها الجريمة الأخطر في عُرف واشنطن وحلفائها.
إذن نحن أمام سقطة أمريكية أخرى أخلاقية وسياسية وإنسانية، وتهور سياسي بعيد تماما عن الواقعية والتكافؤ. فهل يقود هذا إلى عُزلة إدارة بايدن بعد رفض العديد من الحلفاء وأعضاء الناتو المشاركة في هذا التحالف؟
واقع الأمر أن كل الدول الأوروبية، التي لها علاقات تحالف أو شراكة أو صداقة مع واشنطن، تجد نفسها تتعرض لضغوط من أجل المشاركة، وهذه الدول عليها أن تصل إلى موازنة حاجاتها، مع استمرار التحالف أو الشراكة أو الصداقة مع الولايات المتحدة، مقابل خطوات قد تؤدي إلى الإضرار بها من خلال الانجراف وراء الرغبات الأمريكية، التي تبدو ارتجالية وتصعيدية، من دون أي مبرر، وهي على كل حال غير متوازنة.
إذن عندما يتم الإعلان عن مشاركة دول، ثم تتراجع هذه الدول عن المشاركة، علينا أن لا نعتبر ذلك نتيجة قراءة للوضع الأمني في البحر الأحمر، بقدر ما هي قراءة لحاجات هذه الدول إزاء واشنطن. وعليه يمكن القول نعم، إن واشنطن تواجه اليوم حالة عزلة أثبتتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما أيدت غالبية الدول إيقاف الحرب ووصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، بالضد من التأييد غير المشروط، الذي تستمر هي به لإسرائيل. وبذلك هي بالفعل باتت معزولة.
يقينا أن الولايات المتحدة ليست بحاجة فنية لمشاركات دول أخرى في هذا التحالف، فماذا سيقدم الجندي الوحيد الذي شاركت به الدنمارك مثلا في هذه المهمة. لكن واشنطن بحاجة إلى أن تطول القائمة وتزداد، وتضاف إليها دول عربية على وجه الخصوص.. هي تريد إظهار أن الانضمام والتضامن معها يستمر ويتعاظم.. هي تعلن أن هناك خطرا على الملاحة الدولية من أي عرقلة، ولكن مجددا يجب القول الموازنة بين وصول بضائع ومقتل أبرياء موازنة ظالمة، والاهتمام الأمريكي يبدو منصبا على حصول الإسرائيلي على بضاعته، ولكن يُترك الفلسطيني إما مقتولا أو جائعا أو مُهجّرا أو كلها معا. هذا هو انعدام العقلانية في المقاربة، الذي سيؤدي إلى انعدام الاستقرار. وعليه أن أي كلام لا يتضمن معالجة المقتلة القائمة في غزة اليوم، والتحضير الممنهج لنكبة غزة هو كلام لا فائدة مرجوة منه. إن الرئيس الأمريكي جو بايدن ومسؤولي البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع، يدركون تماما الكُلف السياسية والاستراتيجية والاخلاقية التي تتكبدها الولايات المتحدة، إزاء دعمها للعدوان على غزة. فهناك استياء عالمي في العديد من بقاع العالم وحتى في أوروبا، والذين يُصنّفون الحملة العسكرية الإسرائيلية في حرب غزة بالهمجية.