في فلسطين: «نيوتن» يولد من جديد وطفل بقلب أم!
عجيبة هي الحياة.. لا قدرة لنا على فهم أسرارها، مهما حاولنا التأمل فيها، ومهما تعمقنا في فهم تقلباتها أو حاولنا فلسفتها.. إنها اللغز الأكبر.. لغز يكبر معنا وبنا.. يا ترى كيف تولد الحياة من قلب الموت؟ وكيف ينبعث الضوء من أحشاء الظلمة؟ ومن أين تأتي الصلابة بصلابتها في فصول القهر والشقاء؟ ومن أين تنبثق قصص الأمل والإصرار في عز الصراع والمعاناة؟
هنا تتجلى بقوة كلمات الدكتور مصطفى محمود في كتابه «لغز الموت»: وبالموت تكون الحياة، وتأخذ شكلها الذي نحسه ونحياه، لأن ما نحسه ونحياه هو المحصلة بين القوتين معاً الوجود والعدم.. وهما يتناوبان الإنسان شداً وجذباً.
هكذا تبدأ حكايتنا.. حكاية أطفال فلسطين.. أطفالها الأموات والأحياء.. فالأموات منهم رحلوا ربما ليكملوا أحلامهم في مكان أكثر سعة لها.. قد تكون هذه الأرض ضيقة عليها، هنا، لا ملاعب تكفي خطواتهم، ولا حقول تبهج خيالهم، ولا حتى مدارس تطور قدراتهم، رحلوا لتبدأ حياة تليق بهم، ففي كل مرة تمطر السماء يرسلون لنا في حبات المطر أضواءهم، ولو جمعنا خيوط أضواء الفجر لحاكت لنا بنفسها أصوات ضحكاتهم، تلك التي تبهج السماء.
أما أولئك الصغار – الأحياء حتى إشعار آخر – فهم باتوا مدرسة الأمم، بعد أن هدم المُحتلّ مدارسهم، منهم تعلمنا دروس الشجاعة والإرادة القوية، والإيمان، والصمود، والعزة. منهم تعلمنا المعنى الحقيقي للإنسانية والمحبة والأخوة.
من بين القصص الفلسطينية التي تجسد إرادة الحياة وتمثل شجاعة الفئات الأكثر ضعفًا، قصة الطفل الفلسطيني الملقب بـ»نيوتن فلسطين».
إنه حسام عطّار. ولد هذا الطفل البطل في قطاع غزة، في قطاع الموت، حيث الحياة تنازع منذ زمن طويل. حسام يعيش عمره الصغير في ظل التحديات والصعوبات، وعلى إيقاع الحروب المتتالية، وتحت أنياب «الوحوش». رأى دماء جيرانه وشهد على رحيل رفاقه الصغار، كما شاهد انهيار المباني، وهو أيضاً عاش تجربة البحث عن أشلاء أحبائه تحت الركام. حسام ورفاقه الأحياء شاهدوا نفاق العالم وظلمه. وكانوا يدركون أن الأموات في بلادهم مجرد أرقام إحصائية. أموات من نوع آخر. أموات لا أسماء لهم ولا وجوه ولا أحلام، ولكنه مع ذلك قرر أن يكون شعلة الأمل، التي تنير ظلمات اليأس. وبالرغم من صغر سنه، كان يحمل في داخله إيمانًا لا يلين، وقوة لا تتزعزع. لقد حاول أن يستفيد من المعلومات التي تعلمها في المدرسة قبل أن يطحنها العدو، ليتغلب بها على العتمة التي يعيشها مع أهله داخل الخيمة منذ أكثر من عشرين يوما. هكذا استطاع أن يخترع مولداً للكهرباء يضيء به خيم النزوح، وذلك بواسطة الرياح، فرياح فلسطين لم تقدر عليها دبابات العدو الإسرائيلي.
لم يكن «نيوتن الصغير» يمتلك موارد فاخرة، بل كانت موارده محدودة بسيطة، ولكنه كان يمتلك إرادة من حديد وعزيمة لا تلين. لقد اشترى من السوق أسلاكاً بقيمة شاكل واحد، وكان يتسلل إلى سقف الخيمة ليشبكها مع بعضها البعض. لم يكن يعرف والده سبب قضاء ابنه وقتاً طويلاً وهو يتأرجح بصحبة الهواء وعيناه شاخصتان إلى السماء. وحين رأى والداه الضوء ابتهجا ابتهاجاً عظيماً. لم يشعل ذلك الصغير ضوءًا فحسب، بل أشعل أيضًا أملًا وتفاؤلًا في قلوب أفراد عائلته وقلوب جيران النزوح والتشرد.
انتشرت قصة «نيوتن فلسطين» كالنار في الهشيم على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحت مصدر إلهام للكثيرين. فقد أظهر هذا الطفل الشجاع أن العزيمة يمكنها أن تحقق المعجزات، حتى في أحلك الظروف.
اليوم، يُعتبر «نيوتن فلسطين» رمزًا للأمل والصمود، وقصته تذكرنا أن الحياة أقوى من الموت، والقوة الحقيقية تكمن في قلوب الأفراد وإرادتهم الصلبة في التغلب على الصعاب، مهما كانت قسوتها.
طفل بقلب أم
بطل حكايتنا الثانية هو طفل بقلب أم. في إحدى ليالي الحرب الإسرائيلية السوداء على سكان غزة، قصفت إحدى الطائرات منزلاً هادئًا، مليئًا بالحب والدفء والأمل! لم يكن في ذلك المنزل سوى مدفأة قديمة، وأم حنون تبث الأمل والراحة في نفوس أطفالها، وطفلة رضيعة، وطفل لا يتجاوز عمره الثمانية أعوام.
آه، تذكّرت كان هناك أيضا بعض حبات التفاح والبرتقال المستلقية بكسل على مائدة خشبية صغيرة، وقنينة فيها زيت زيتون صافٍ، وكيس زعتر، وبعض الذكريات المتمسكة بجدران البيت.
قصفت الطائرات البيت. ماتت الأم. انكسرت قنينة الزيت. وضاعت حبات الزعتر بين الحجارة. لقد نجا الطفل والرضيعة وبعض من حبات التفاح والبرتقال، وذلك بأعجوبة. وفي تلك اللحظة الصعبة، انبثقت القوة في صدر الطفل الصغير، وتحوّلت الضحية إلى محارب. حمل الولد الصغير شقيقته الرضيعة، ونزح بها مع النازحين. مشى بها طويلاً. وفي كل خطوة كان يواجه التحديات بعزيمة وإصرار، محاولاً حماية شقيقته الصغيرة بكل ما أوتي من قوة. تولى مسؤولية رعايتها بكل عناية، وعلّم نفسه بنفسه تجهيز قنينة الحليب، وغسل حفاضاتها. راح ينام إلى جانبها ليحميها من برد الليل ومن كل ما قد يهدد سلامتها.
طفل استحال أماً، ولكنه على الرغم من صغر سنه، وجد في قوته الداخلية وحبه لشقيقته الصغيرة القوة الكافية لمواجهة التحديات وتحمل المسؤولية. إنه درس حيّ في الحب والتضحية، ودليل على أن القلوب الطيبة قادرة على تحقيق المعجزات.