تفجيرات إسرائيلية «مرحة»…! والأغاني ما زالت ممكنة من غزة
لا تشبه خرافة «أخلاقية الجيش الإسرائيلي»، التي لا يتشدّق بها سوى جيش الاحتلال نفسه، إلا خرافة الجيش الذي لا يقهر، التي ابتكرها هو نفسه أيضاً كدعاية مستهلكة مضجرة. ماذا يفعل جيش إسرائيل، على مدى الـ 75 عاماً الفائتة، غير أن يثبت، حرباً تلو حرب، ومجزرة تلو مجزرة، بأن الـ «أخلاق» المزعومة ليست سوى نوع من سطوة نظرية «القوة دائماً على حق»، أو بحسب عبارة نتنياهو «العالم قد يتعاطف مع الضعيف لبعض الوقت، لكنه دائماً يحترم القوي»، حيث بإمكانها أن تغطي مجزرة بكاراج سيارات، وبحدائق مصممة بعناية، سيمتدحها العابرون، بمن فيهم العرب والفلسطينيون الذين عادوا بجوازات سفر وجنسيات جديدة، أن تغطي المجزرة المستمرة بقوة الإعلام المملوك، واللوبيات، وإطلاق الاتهامات بمعاداة السامية لكل من تسوّل له نفسه الاقتراب من الحقيقة.
تكفي هذه القراءة من «نيويورك تايمز» تحت عنوان: «ماذا تقول لقطات الجنود الإسرائيليين وهم يدمّرون ويسخرون من الفلسطينيين في غزة»، قدمت فيها الصحيفة الأمريكية تحليلاً موثّقاً وشهادات لا تنكر لمجموعة الفيديوهات التي صوّرها الجنود الإسرائيليون في غزة لأنفسهم مبتهجين وساخرين وعابثين، تكفي لنُعاين كيف أن الجيش المتوحش لا يمكن تفريقه عن أي جيش متوحش آخر إلا بدعم تاريخي، أسطوري أيضاً، من الولايات المتحدة.
يستنتج تحقيق الصحيفة الأمريكية أن لقطات فيديو الجنود تقدم «صورة نادرة، ودون أي قيود، عمّا يجري في القطاع من دمار ونوايا إبادية للجنود»، وأن «شهادات الجنود على حساباتهم الشخصية تعطي صورة عن الطريقة التي ينظرون فيها للفلسطينيين وممتلكاتهم»، ولعلنا شاهدنا جميعاً، قبل «نيويورك تايمز»، بعضاً من تلك الفيديوهات المؤذية، التي تمثل بالفعل خلاصة الشر، أن تفجّر بيتاً أو بناية في استعراض داعر أمام الكاميرات كنوع من الهدية لطفلتك في عيد ميلادها، أن تدمر حياً بأكمله، أن تبيد شارعاً ثم تضع اللافتة التي تحمل اسمه على واجهة الدبابة معلناً انتصار دبابتك على لافتة طرقية، وتمثال لقبضة يد، وشجرة، حبل غسيل، وقبل كل ذلك وبعده على أطفال عزّل، ونساء ومشافٍ.
لقد شاهدنا كيف كانوا يفعلون ذلك بكل بساطة، فيما يرون بعيونهم وعيون كاميراتهم أثر زر التفجير، أو إشارة البدء، أي ليس هناك أي محاولة لاستبعاد أو إغماض عين الضمير، على ما يحدث في المسيّرات التي تقصف عن بعد من دون رؤية مشاهد الدم مباشرة، كما لو أنها لعبة إلكترونية. إنهم يأكلون ويفجّرون، يضحكون، يقهقون، يدخنون الأركيلة، يشربون الأنخاب، يبعثون برسائل حب لذويهم وأصدقائهم وشعرائهم، يمارسون تفجير البنايات كما لو أنه طقس ديني مرِح.
من المضحك أن بياناً رسمياً صدر عن الجيش، بعد أن باتت الفيديوهات ارتكابات دامغة، يقول فيها إن «سلوك القوات الذي يظهر من هذه اللقطات مشين، ولا يتطابق مع أوامر الجيش»! وما عساه يقول غير ذلك!
وبالمناسبة؛ أن تعرض الصحيفة الأمريكية بيان الجيش الإسرائيلي وجوابه على تلك الانتهاكات لا يعني أن الصحيفة تدسّ السم في الدسم، مهما بلغ انحيازها للرواية الإسرائيلية، وإلا لما نشرت التحقيق من الأساس، فهو في النهاية شهادة دامغة، تقلع عيون المنكِرين، ولا يستبعد أن تستخدم نتائج التحقيق في دعاوى قضائية، على نحو ما استخدم فيديو للجنود في دعوى جنوب أفريقيا، على ما تقول الصحيفة نفسها.
مهما بلغت الصحف الأمريكية من انحياز لا يمكنها أن تكون نهائياً بلا موضوعية، لا يمكنها أن تكون مثل الصحف العربية الرسمية (الصحف الإسرائيلية نفسها لا تخلو من الموضوعية أحياناً). ثم إن أي تحقيق صحافي إن أراد أن يكون متوازناً ومهنياً عليه أن يعرض أكثر من وجهة نظر، وخصوصاً أن يعطي الفرصة للطرف المتهم ليقول ما لديه.
ليست الارتكابات مجرد زلّة من واحد أو اثنين، إنها ظاهرة، وأكيد أن ما خفي منها أعظم، وقد تكشف الأيام فيديوهات أخرى أرسلها الجنود لزوجاتهم وأمهاتهم والمنتظرين للحظةِ الانتقام والتشفي، كل هذا العدد لا يمكن أن يكون مجرد زلة، فهو سلوك الجيش، وخلاصته، ولم تكن تلك اللقطات لتظهر بهذه الأريحية لو لم يكن الجنود في مناخ مشجع.
إذن ليس بوسع الجنود وقياداتهم القول غداً، في محكمة المستقبل، مع كل هذا المرح، إنهم مجرد مأمورين مغلوب على أمرهم. كما ليس بالوسع الحديث، اليوم، وغداً، عن جيش ذي أخلاقيات، هو مجرد وريث عصابات، مرتكب مجازر، متوجة بـ «إبادة جماعية».
غزة هي التي تقول
أينما وضعت الكاميرا في قطاع غزة، وفي أي وقت كان، لن تجد إلا ما يُبكي، بل ما يحرق القلب. هذا هو حالنا صباحاً مساء منذ مئة وثلاثين يوماً، نصاب بالذعر أمام تفجير، نغصّ أمام فَقْدٍ أو رحيل، نتناول لقمتنا ونحن نردد: «سامحونا يا أهل غزة»، ونلتقط صوراً لأولادنا، أو نعانقهم فيما نقول: «الله يحمي كل أولاد غزة».
لكن هذا هو الحال أيضاً فيما نتابع مشهداً مفرحاً، ما يفترض أنه مشهد مفرح، كتطيير الأولاد طائراتهم الورقية الملونة فوق الخيام، مشاهدة فيديو لصبي فائق الذكاء يصنع مراوح، فيضيء عتمة الخيمة لعائلته، أو عرس في خيمة، أو أغنية لفرقة واعدة تتجول هنا وهناك لتفرح القلوب، من بينها خصوصاً جولة لها على عربة يجرّها حمار، لا تصدق أن بالإمكان أن تطلع ضحكة أو نغم من هذا المكان.
لم يفتني أن أتذكر بيانو مخيم اليرموك، الذي كان صاحبُه، عازفُه، يجرّه مع فرقته يجول ويصدح في أرجاء المخيم، كما لو أنه آلة موسيقية شعبية. ولم نعد ندري الآن عن مصير الفرقة السمراء شيئاً.
لا ندري إن كان بالوسع القول إن هنالك دائماً نغماً ممكناً!
على أي حال، لسنا نحن من يقول، غزة هي التي تقول.