نحن والضبع الأسود والقبة الحديدية
«هذا العالم لا يستحق العيش والاستمرار، يجب أن ينتفي»، كلمة كنت أسمعها في طفولتي من جدّتي كلما تعلق الأمر بصمت الناس تجاه مظلمة كبيرة، حيث كان يجب أن يتحركوا وينتفضوا ولم يفعلوا شيئاً. وعندما سألتها يوماً عن معنى هذه الجملة، حكت لي قصة جدها الذي منح حياته من أجل إنقاذ حياة طفل. قالت: دخل ضبع أسود يخافه كل الناس، إلى الخيمة، وأخذ طفلاً بين أنيابه أمام دهشة الناس وهروبهم وصمتهم. كانوا قد هرَّبوا أغنامهم ودوابهم نحو أماكن آمنة، لأنه كان يعتدي عليها باستمرار. عندما لم يجد الضبع ما يأكله، هجم على أول خيمة أخذ منها طفلاً كان نائماً، بين أنيابه، ومشى على راحته لا يأبه بأحد، بعد أن أدرك جبنهم. بينما هرب والدا الطفل نحو الهضبة مع الجميع. جدي، عندما لاحظ جبن أهل الخيام، حمل سكينه الطويل الذي صنعه بيده برفقة صديقه الحداد الذي صنعه له وفق شروطه التي هي شروط المحارب، وصرخ: «يا أنا يا هو. الحياة ضاقت بيننا». ثم ركض بحصانه وراء الضبع الأسود بكل طاقته، إلى أن أدركه. قامت بينهما معركة قاسية، كان الضبع يعتمد على أنيابه الحادة ورائحته الكريهة، إلى أن توصّل جدّي إلى توجيه الضربة القاضية له التي فتحت قلبه، لينهار نهائياً الحيوان ذو الأنياب الكاسرة والرائحة الكريهة، وعاد بالطفل حياً إلى خيمة والديه، يجر وراء حصانه الأجود جثة الضبع الأسود. فتراكض الناس نحوه وكان مثخناً بالجراح. رفض أن يداويه الصّامتون. قبل أن يموت قال: «البارحة جاءكم ضبع أسود، متوحش، وأكل أغنامكم، وعندما لم يجد ما يسعد أنيابه وبطنه، توجه نحوكم، وسرق طفلكم لأكله، بدل مقاومته بفؤوسكم وحبالكم ومناجلكم وسكاكينكم، وحتى بأظافركم، هربتم منه ظناً منكم أنكم ستهزمونه بالصمت والخوف والهرب. أخرجتم أغنامكم ودوابكم لتفادي خسارتها، وغداً ستضطرون إلى الخروج من أرضكم وأرض أجدادكم بسبب الخوف. وسيبدو لكم الأمر عادياً، لأن المقاومة التي فيكم اندثرت. في الليلة المظلمة مات جدي وهو ينزف».
ما يحدث للعالم العربي اليوم يشبه قصة الضبع الذي هزم الكل، لا بقوته ولكن بالخوف الذي فرضه عبر السنوات. إذا لم يجتمعوا ويتوحدوا كيفما كان شكل هذه الوحدة، حتى داخل الاختلاف، لمواجهة الضبع الأسود ذي الأنياب الحادة والرائحة الكريهة، سينتهون. كلما تراجعوا قليلاً، اجتاح الضبع الأمكنة التي أخلوها وتمسك بها.
ينتظر الوقت المناسب لينقض على الخيرات العربية التي بإمكانها أن تغير كل المعادلات العالمية. ما يحدث في غزة ليس بعيداً عن هذا كله. التقتيل اليومي الذي يطال إخوتهم في غزة لم يدفعهم إلى تأمل ما يحدث أمام أعينهم وفي جنباتهم. قد يكون في رمزية الضبع ما يدل على الظلم في وقتها، لكنه ظلم مستمر حتى اليوم. أي آلة مرعبة يملكها نتنياهو تجعله في منأى على القوانين العالمية التي تدينه، وردة فعل عربية موحدة؟ نتنياهو وفريقه من عصابات التطرف الديني اليهودية، مصرون على الذهاب بالجريمة المعلنة والموصوفة إلى أقصى حدودها. التمزق العربي الذي أصبح معلناً وخطيراً في الحاضر والمستقبل، يشكل اليوم جزءاً من الهيمنة العامة ولا تغيير إلا بإيجاد مساحات عربية مشتركة، لأن المجرم التوسعي في المقابل ليس بكل هذه القوة باستثناء الحضانة الأمريكية. ليس المطلوب اليوم جيشاً عربياً للإنقاذ كما في الأربعينيات، شعاراته أكبر منه، ولكن قوة حقيقية مالية وعسكرية يحسب حسابها عند الضرورة.
لا يمكن أن يتفرج الجميع في الآخر وينسى أن دوره آت لا محالة. يحتاج العرب أولاً إلى استرجاع سمائهم المسروقة التي أصبحت ملكية إسرائيلية، على العكس من السبعينيات حتى نهاية الثمانينيات، كانت أية طائرة معادية تخترق الأجواء العربية تسقط. وزير الدفاع الإسرائيلي يهدد لبنان واليمن وكل دولة عربية ترفع رأسها قليلاً بدفع الثمن نفسه الذي تدفعه اليوم غزة، وكأنهم يغرسون في اللاوعي العربي بعبعاً اسمه «غزة مدمرة». احتلال السماوات، وهي آخر اكتشافات أمريكا العسكرية في حرب يوغوسلافيا سابقاً والعراق وسوريا. هذه القوة التدميرية لا تعني أنها قوة مطلقة وإن ظهرت كذلك. من حق العرب كيفما كانت توجهاتهم وخلافاتهم أن يؤسسوا لـ«قبة حديدية» أو شبيهاً لها، حامية لمدنهم الكبيرة ولمواقعهم الاستراتيجية. الحق في الدفاع عن النفس يبدأ بامتلاك وسائل الدفاع.
للأسف، لا حلّ إلا بخلق هذا التوازن الدفاعي. نعرف سلفاً أن من يقرع طبول الحرب اليوم ليسوا العرب ولكن إسرائيل. الذين يرفضون السلام مع الفلسطينيين ودمروا كل أفق له بدأ مع اتفاقيات أوسلو، كيفما كانت وجهة نظرنا فيها، هم الإسرائيليون. الذين يقتلون الأطفال والنساء ويدفعون البشرية إلى مضاعفة العداء للساميين هم الإسرائيليون وليس العرب.
زمن آخر يرتسم في الأفق داخل الدم والجريمة واللاإنسانية، تخطئ أمريكا وإسرائيل إذا كانتا تظنان أنه سيكون لهما وحدهما.