هذا مع حدث مع المفرزة!.الحلقة٤ .
علي كرادي
ذلك الصباح الشتوي الممطر والمربك وسط رفاق مقر القاطع جيئة وذهاباً، ونحن ننتظر بتحرك المفرزة والرفيق لطيف ” محمد السعدي ” . يودع رفاقه بالدموع لاستحقاق السنوات التي مضت والتي عاشوها بحلوها ومرها وفرحها وحزنها ، وعندما تحركت المفرزة شاهدت لطيف مستاء بشدة ، وعندما سألته ، قال لي : يقول لي أبو ناصر بل يتوعد لنا بحياة سقيمة ومشردة وجوع في إيران !.
كانت المفرزة بقيادة الرفيقين سردار ، كما نوهت له في الحلقة السابقة وأبو حسن من أهالي الحلة ، وكانت الأجواء متوترة والحديث مختصر بيننا وحذر رغم معرفة لطيف بهم سنوات طويلة ، عندما وصلنا أحدى القرى القريبة من الشارع العام ، وكان الليل قد أسدل سدوله وأحياناً تتخله قنابل تنوير على الشارع العام الذي يربط قضاء ” جمجمال بمدينة سليمانية ” . ولحساسية الوضع وخطورته طلب لطيف من رفاق قيادة المفرزة بترتيب توزيعنا على البيوت ، وأن يكون كل واحد منا مع رفيق مسلح كوننا لا لانحمل السلاح ولقرب القرية من الشارع سنكون ضحايا سهلة لسلطات النظام أن حدث طاريء وهذا متوقع ضمن وضعنا العام كمقاتلين ضد مواقع النظام ، ولكن للأسف الشديد رفضوا الرفاق وأجبرونا أن نتوزع وحدنا في البيت مما عرضونا كبش فداء لأي تقدم على القرية وهذا وارد جداً .
قضينا الساعة بشق الانفس والخوف المرتقب يحاصرنا، جهزنا حالنا مع المفرزة بعد وجبة العشاء الفقيرة لعبور الشارع العام بالطريقة الانصارية ” البشمركة ”واحد يتبع الآخر على شكل سرب ، وأثناء لحظة العبور تعرضنا الى كمين غير محكم وغير متوقع بالنسبة لهم بعبور مفرزة بهذا الوقت المبكر من الليل ، في اليوم الثاني في الصباح الباكر وصلنا الى احدى القرى البعيدة نوع عما عن متناول ووصول أجهزة السلطات لنا ، وأخذنا قسطاً كبيراً من الراحة بأنتظار عتمة الليل لنواصل مسيرتنا .
تحت عتمة الليل تحركنا في جو عسكري مشحون بالإستنفار بالمنطقة ، ولم نتوقف طيلة الليل تحت المطر الغزير ، وفي الصباح وصلنا إلى قرية ” قزلر ” ودخلنا مباشرة الى باحة المسجد وأوقدنا النار في الموقد وسط الجامع وإلتفنا حول الموقد للتدفئة وتجفيف ملابسنا الرطبة والتي لصقت بأجسادنا من شدة زخات المطر ، وبعد ساعات محدودة توزعنا على بيوت القرية لتناول وجبة فطور وهي عبارة عن قليل من اللبنة مع قطع من الخبز .
عدنا للمسجد بعد وجبة الفطور ، وشعرنا هناك كلوسة ووضع غير طبيعي بين مقاتلي المفرزة من خلال الهمس واللقاءات الجانية ، هم الرفاق قادة المفرزة سردار وأبو حسن بالحديث مع محمد السعدي جانباً وأبلغوه بالقرار وبتوصية من قيادة القاطع ” إنه هذا حدنا معكم ” وحاول لطيف معهم بالعدول عن قرارهم مذكراً نحن رفاقكم وتركنا هنا في هذه القرية سنكون ضحية لاعداء الحزب والمنطقة عبارة عن جبهة حرب ووسط ربايا عسكرية عراقية وإيرانية !.
لم ينفع معهم حديث لطيف ، فجهزوا حالهم وتحركوا وتركونا وحيدين في القرية وسط أهاليها .
قرية ” قزلر ” تقع على قمة جبل يمتد على أطراف مدينة سليمانية ، وحسب خزيننا عن تاريخ وأهالي القرية . يوجد وسط أهاليها عملاء للسلطة ، حدث سابقا عام ١٩٨٠ ، دخلت مفرزة شيوعية لها وحين دخولها طوقت القرية من فوج من القوات الخاصة مع إنزال قوات خاصة من سلاح الطيران ودارت معركة غير متكافئة راح ضحيتها شهداء شيوعيين ، كان من ضمنهم الشهيد الفنان معتصم عبد الكريم ، وهو من أهالي بغداد . تركونا في موقف محرج ولا دليل لنا عن وجهتنا فاستعانينا بأحد شباب القرية فأشار لنا الى قمة جبل يقع خلفه مقر البشمركة ” الاكتي ” حزب الاتحاد الوطني الكردستاني تسمى مناطق ” سركلوا بركلوا ” ، ورغم شكوكنا لكن لاسبيل لنا ، وتحركنا أنا ولطيف بهذا الاتجاه بحدود العاشرة صباحا ، وكانت الامطار والعواصف مصحوبة بسقوط الثلوج ، كنا في وضع يرثى له ، لكن لا بديل لنا الا الاستمرار بالمسير رغم العواصف الشديدة والثلوج والتي أحياناً تمنع رؤيانا للطريق ، وأستمرنا بالطريق كاد أن يلقي حتفنا لولا تحدينا وتشبثنا بالحياة .
بعد تلك الساعات العصيبة والخطيرة وفي عتمة الظلام تراها لنا من بعيد ضوء فلاحقناه ، كان مقر القيادة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني فوصلنا له ونحن نجرجر أذيال التعب واليأس ، فحظينا بالاستقبال بعد أن عرفناهم بأنفسنا ، نحن مقاتلين شيوعيين أختلفنا مع رفاقنا وتركونا في الطريق وسط الربايا العراقية . جهزوا لنا غرفة للمبيت ، وفي الصباح وسط مقاتليهم ألتقينا بأشخاص كانوا ملتحقين جدد بهم أو حسب أدعاهم جاؤوا لكي ينسقوا معهم بعمليات وتنظيم في الداخل ، كان أحدهم من أهالي بعقوبة المدعو أحمد المانعي والشاعر هاشم معتوق وشخص آخر من أهالي كربلاء ، ودارت بيننا أحاديث طويلة .
بعد عدة أيام من وجودنا في مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني ، طلبنا منهم أن نتوجه الى إيران فرسموا لنا خارطة بإتجاه الحدود ، وفي صباح أحد الأيام تحركنا أنا ولطيف بأتجاه الحدود الإيرانية وبعد رحلة متعبة ضيعنا الطريق في قمم الجبال ربما لكثافة الثلوج ، وهذه محنة أخرى واجهتنا ، كانت صعبة جدا ، صادفنا في الطريق وربما من حسن حظنا بيت قروي فألتجهنا له وأستقبلونا مع وجبة أكل وعرفنا منهم إنهم من تنظيمات الحزب الديمقراطي الكردستاني ” حدك ” . وعندما سألناهم عن الطريق السالك الى إيران صعبوا علينا الأمر بسبب كثافة الثلوج وكل الطرق مسدودة . أضطررنا أن نعود مرة ثانية الى مقرات ” سركلوابركلوا ” . وفي هذا المقر إلتقينا بشخصين مهمين محسوبين على التنظيم اليساري ” ئالاي شورش” ومحسوبين على نوشيروان ومله بختيار ” المعارضين لسياسة الاتحاد الوطني الكردستاني ومغضوب عليهم ومجمدين عن أي نشاط سياسي هما كاكا شورش المدرس من أهالي سليمانية وأبو بكر من أهالي سليمانية ويتمتعون بكاريزما وثقافة وإطلاع تام عن الوضع السياسي في العراق ، بعد أيام طرحوا علينا بعد أن أطلعوا على مواقفنا بوجود مجموعتين من الشيوعيين ولهم مقرات قريبة من هنا ، هما جماعة شيوعيون ثوريون سالم وزهير اللذان تعرضا فيما بعد الى الإغتيال والموت في غرفتهم في ظروف غامضة . وجماعة الشهيد ستار غانم ” سامي حركات ” . فطلب لطيف منهم إيصالنا لهم بإعتباره على علاقة ومعرفة سابقة بسامي حركات .
لقاء تاريخي !.
ذات مساء ، رافقنا كاكا شورش وأبو بكر الى سفح الجبل ، حيث هناك رفاقنا سامي حركات ورفاقه ، وفي جو ساده الرهبة والحزن إلتقينا برفاقنا سامي حركات ، سيدلطيف ، نبيل ، جابر ، أبو عليوي الكربلائي . لحظات لاتنسى ممزوجة بالفرح والحزن فقاسمناهم حياتهم الصعبة وبقينا معهم عدة شهور من نهايات ١٩٨٧ الى ربيع عام ١٩٨٨ ، كارثة الانفال .
أنفال عام ١٩٨٨ !.
ذات صباح شتوي قارص البرد ، لكن ضوء الشمس ، كان فيه ساطع مما يشكل للناظر لوحة جميلة بانعكاسه على أكوام بياض الثلوج المتراكمة على قمم الجيال والتلال والسفوح . وكان موقعنا على ذلك السفح ، الذي يطل على مقرات ”سركلوا بركلوا ”.غاطس بالثلوج ، كان يومنا أعتيادي جلسنا في الصباح ولا يعكره مزاجه الا تحليق الطيران الحربي فوقنا ، يخترق السماء جيئة وذهاب وصوت المدافع وأنفجار الصواريخ تدك القمم التي تقع وراء موقعنا . بعد فترة زمنية لا تحسب ، مر من جانبنا فلاح مع بغله ، وتكلم معنا بعصبية ” ماذا تعملون باقين هنا ” الجيش والجاش طوق المنطقة والوديان أمتلأت برائحة الكيمياوي ، ونبهنا لاحظوا الطيران فوقكم ، أمام هذا التطور الخطير وعلى وجه السرعة لملمنا كل ما ثقل ثمنه وخف وزىه ، قام محمد السعدي وسامي حركات بحفر حفرة كبيرة قريبة على موقعنا وأخفوا بها كل أجهزة الطبع والنشر وعدد من البنادق . تحركنا بأتجاه الوادي ، حيث مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني ، والمفاجأة الغير محسوبة وجدنا المقرات خالية من المقاتلين إلا بعض المقاتلين يدفنون جثث السجناء ، الذين كانوا في سجون الاتحاد الوطني . ونحن أخذنا طريقنا بالانسحاب مع مئات من أهالي القرى يحملون أمتعتهم على ظهورهم وأولادهم الصغار ، ونحن نتسلق الجبال بأتجاه الاراضي الإيرانية وسط أكوام الثلوج ورائحة الكيمياوي ، شاهدنا موت الحيوانات والمواشي على قارعة الطرق أثر القصف الكيمياوي ، وأعترضت طريقنا أمراة مسنة تحمل طفلين فساعدناه بحملهم . وبعد يوم كامل من المشي وسط الثلوج وصلنا إلى قرى إيرانية ، وقضينا ليلتنا بدون نوم وتحت خيم لا تحمينا من شدة البرد .
في الحلقة القادمة .. في المدن الإيرانية … أنتظرونا .