علاء حمد والثقافة النصيّة في مدونة الشاعر حميد العقابي
نبيل عبد الأمير الربيعي
عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل، صدر للأديب والناقد علاء حمد كتابه الموسوم (الثقافة النصيّة في مدونة الشاعر العراقي حميد العقابي)؛ بواقع (194) صفحة من الحجم الوسط، وغلاف الكتاب يحمل صورة الشاعر الراحل حميد العقابي.
كُسِرَ الكتاب على مقدمة وأربعة فصول، معتمداً الكاتب على (36) مصدراً أدبياً نقدياً، والناقد علاء حمد المقيم في الدنمارك صدر لهً أكثر (21) مؤلفاً بين النقد الأدبي والشعر، وهو الرافض للتمييز بين شعراء الوطن العربي من حيث المذهب أو الطائفة أو الدين، متجاوزاً الرؤية الشوفينية والعنصرية، فكان يشده النص النوعي للكتابة، معتمداً التفاؤل الكتابي بعيداً عن السلبيات، وفنية النص الشعري الحديث.
أما موضوع الكتاب في مدونة الراحل حميد العقابي؛ فالعقابي من مواليد الكوت، 12 حزيران 1956، اكمل دراسته فيها، ثم سنحت له الفرصة أن يستقر في مملكة الدنمارك عام 1985م، نتيجة الظروف السياسية في العراق آنذاك وموقفه الرافض للعنف والدمار وافتقاد العدالة، بعد رحلة عذاب بين الأسر في إيران منذ عام 1982 والرحيل نحو سوريا، ثم الدنمارك كانت محطته الأخيرة ومنفاه الذي دفن فيه، ورحل عن عالمنا إثر أزمة قلبية مفاجئة يوم 3 نيسان من عام 2017م، وقد صدر للعقابي (11) ديواناً شعرياً، و(10) مؤلفات بين الرواية والقصة.
يسترجع الناقد والشاعر علاء حمد في كتابه العلاقات النصية والوظائف الدلالية في النص والبنية النصية في قصائد الراحل حميد العقابي معتمداً على النصوص الشعرية للعقابي على المستوى العرفاني والمقاربات التداولية من خلال الضوابط والارتباطات والمعاينة الرمزية واللغوية والعلاقات الدلالية الحركية الانتقالية والعلاقات المقطعية في قصائد العقابي.
يرى علاء حمد في مدونة الشاعر العقابي أن الأخير استطاع أن ينتج نصوصاً بمجاميع شعرية مختلفة، وقد اختلف إنتاج النصّ لديه من ناحية التقليلية الزمنية، ومن ناحية التقشف اللغوي، فهو يعتبر بأن المفردة، مفردة شعرية تنزل بمفاهيم تركيبية لتكوين المستوى النصيّ، ومثال ذلك قصيدة العقابي (أمطار الدرويش) من ديوانه (حديقة جورج) ص8:
أيّ فألٍ أقرأ في كفّ القتيلْ
حرّية حرباء
أم صمتاً ثقيلْ؟
أيّ فألٍ أقرأ الليلةَ في كفّي
جمراً
أم ترى أقرأ كفيّ نجمَ المستحيلْ؟
أيّ فأل أقرأ الليلة في كفّ العراق
حرّية،
نخلاً،
رحيل؟
يجد الناقد علاء حمد في ص24 أن “النص يتكون من وحدات لغوية منسجمة مع بعضها، فإن الجملة الشعرية في بعدها الفوقي وبعدها الدوني من حيث مستوى الاندماج، أي أن تكون منفصلة من ناحية المعنى وتنتهي بنقطة دالة”. وهذه نتيجة حتمية تقود الشاعر العقابي إلى الدال الذي سخره من خلال حركة الفعل (أقرأ)، فيرى العقابي من خلال قراءة المشهد العراقي بين القتيل والحرية وبين الصمت والرحيل، فالدرويش له أمطاره الخاصة، وأنفراداته في القراءة.
أما قصيدة (الوهم) ص14 من ديوان (حديقة جورج):
يبتدئ الوهمُ
لكنّ سرعان ما ينتهي بالمحالْ
كيف يبتدئ الوهمُ
أو ينتهي بالمحالْ؟
ها أنا
أتوهم أنّ السؤال بابُ أغنيةٍ
ثمّ أوغل في الوهم
أحفر
أحفر في الأغنيات
أنقّب عن غجرٍ ضائعين
أو قبائل قانعةٍ بالزوالْ
قصيدة الوهم تبين الوضعية الاستدلالية في استدعاء المفاهيم التي قصدها الشاعر من مفاهيم دلالية، إذ يرى الناقد حمد في ص29 “نحن أمام ثلاثة مقاطع ضمن نصّ متواصل، لا يفصل بينهم سوى البياضات، ومن الممكن جداً أن يتحوّل الشاعر من حالة إلى أخرى، أو من بحر إلى بحر آخر، ويحافظ على المبنى النصيّ؛ هي العلاقة المتواجدة، علاقة المعاني التي تمتدّ من مقطع إلى آخر”. لذلك نجد الشاعر يميل إلى اللغة الإدراكية الفعالية على خلفية تأويلية ويثقلها بالكينونات اللغوية التي تتماشى مع التفكر الشعري.
أما قصيدة (سباخ) من نفس الديوان اعلاه ص29، فيقول الشاعر
أيدوزنُ أوتاره؟
أم
يدوزنُ أوزاره؟
أم يمنّي؟
ماصخاً كان صوت المغني
وناي الضرير
البحور الخفيفةُ ماصخة
ماصخٌ ثدي أمّي
وخبز الرحيلْ
مفردات القصيدة مقاربات ايحائية في الاختلاف اللغوي وارتداد المعاني. ويرى الناقد علاء في ص30 أن الشاعر اعتمد “على تأطير النصّ لبناء حركته وتحقيق فعل المتخيّل التي كانت من نتائجه المعاني، وقد اعتمد على دلالة مركزية في تحريك الجمل الشعرية؛ فمفردة (ماصخ) أي عديم الطعم من المفردات المتداولة لدى العراقيين”. فالشاعر اعتمد الاختزال المركزي في اختيار المفردات الدارجة الشائعة في الوسط العراقي.
وهناك قصيدة للراحل العقابي من ديوان (حدائق جورج) ص30 بعنوان (هاوية)، يذكر قائلاً:
ها
وية تحتفي بمكائدها
تتفرّس بالفأس
تقرأ ما يختفي في الرخامْ
ظمأ يتضوّع
والشمس غيمة
نثرت فوق أحلامنا – الشمع
قطراتها
جمرة الماء ترغي
ولامّ
غير غدٍ غارقٍ في الرغامْ
ها وية تحتمي بمكائدها
وظلامْ
نلاحظ أن الشاعر “يحاول أن يقسّم الوحدة اللغوية الصغرى إلى أجزاء، فمفردة (ها وية)، وهي تمثل كلمة مفردة، أي أنّها تمثّل أصغر وحدة لغوية بدأ بها الشاعر” ص32.
لكن الشاعر وبشكلٍ هادئ يخرج ذاكرته في احداث الثاني من آب 1990 بقصيدة تحت عنوان (كثبان) من نفس الديوان ص32 قائلاً:
في الثاني من آب
خرجت ذاكرتي، تحملُ معطفها الوبريّ
تدفئ شمساً تحتضر الليلةَ
كنتُ المجبرَ أن أنصت للذئب العاوي
كي أوهم أغنيتي
أنّ هنالك قمراً للغيّابْ
في الثاني من آبْ
يطرق دجلةُ بابي
يدخل مكتئباً
يتكوّر مرتجفاً في الركنِ
ويطلب عودَ ثقاب
ثمّ يغادر كالطيفْ
في الشارع
ألمحُ نهرً يركض
يركضُ
يركض محترق الأثوابْ
“فقد تطرق الشاعر إلى نهر دجلة، وبما أن النهر يشق بغداد إلى شقين (الرصافة والكرخ) فقد انتمى الشاعر إلى الشقين متابعاً وملاحقاً النهر الذي اتخذ منه دلالة مركزية” ص36، يستنتج الناقد علاء حمد إلى الانتباه المركزي والتلقائي والحدث الشعري والتفكر المعرفي حيث يكون الشاعر في هذه الحالة على معرفة بالهدف التفكري الذي سيخترقه من خلال النص الشعري. فكل ما يدور في النص يعد من الأدوار التداولية؛ وذلك من خلال قصدية المعنى والتأويل وتسيّد الجمل.
من خلال القصيدة اعلاه تولى الشاعر المعنى كموضوع، وذلك من خلال تجريد الذات من المعاني المباشرة. و”هنا جعل الذاكرة، ذلك الكائن الحركي، إسوة مع الأفعال الحركية التي استوطنت في النصّ” ص35.
وقصيد العقابي (مشهد/ حلم) من نفس الديوان ص47؛ يستذكر الشاعر طوابير الشحاذون كصفوف العسكر ينتظرون الله، قائلاً:
بابُ وحيدُ في صحراء
والشحاذون طوابيرَ
طوابير
ينتظرون الله
فجأةً
تفتح البابَ امرأةً عارية
فتندفعُ أمواجُ دلافين.
يرى الناقد علاء حمد في ص38 أن الشاعر قد “وظف مفردة (طوابير) والتي لها علاقة بالصف (وغالباً تستعمل المفردة في المعسكرات)، فهنا، الجملة تنقلنا إلى حالة التشبيه ضمن الاستعارة (الشحاذون طوابير) أي أنهم مثل صفوف العسكر؛ وكما الطابور العسكري ينتظر الضابط، فطابو الشحاذين ينتظرون الله”.
وهكذا يستمر الناقد والأديب علاء حمد في تفكيك قصائد الراحل العقابي من دواونه؛ منها: ديوانه (حديقة جورج) الصادر عن دار قوس في كوبنهاكن عام 1996، و(الفادن) الصادر عن دار ألف في مدريد عام 2015، و(صيد العنقاء) الصادر عن دار ميزوبوتاميا في بغداد عام 2017، و(التيه) الصادر عن دار ميزوبوتاميا في بغداد عام 2015، و(واقف بين يدي) الصادر عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام 1987.
من خلال ما ذكرنا اعلاه نجد الناقد قد فكك القصائد الشعرية وفق العتبات والبنى النصيّة والدلالة والاستدلال، وفاعلية المفاهيم واللغة النصيّة والتأويل، واجاد في ذلك واعطى كل مفردة من القصائد حقها في دراسته النقدية هذه.