محمّد بوديه في دوّامة فلسطين
يصادف تاريخ 24 فبراير، الذكرى 92 لميلاد المسرحي والمناضل الجزائري الكبير محمد بوديه. شخصية وسمت زمنها والفترة التي عاشتها بعلامتها التاريخية.
من يتذكر اليوم ذلك الرجل العظيم، مع أن ما يحدث حالياً في فلسطين يقودنا حتماً نحو تضحياته العظيمة؟ فقد عاش محمد بوديَه، من أجل فلسطين مؤمناً بـ «العنف الثوري» واستشهد من أجلها. كان يؤمن بأن الاحتلال الذي دخل بالقوة لن يخرج إلا بالقوة، دون أن يغلق باب الحوار والمفاوضات، ولكن من موقع القوة وليس الضعف. المحاور الضعيف يضطر دوماً إلى قبول الكثير من الإملاءات. التجارب النضالية بينت ما ذهب إليه، بل وتؤكده يومياً.
فقد سخّر محمد بوديَه حياته النضالية كلها من أجل فلسطين، وكل مكاسبه المعرفية من أجل القضية التي آمن بها. ويجب أن نذكر للأسف، النسيان الذي طاله: فلا الجزائر كرمته لأنه غادرها غاضباً من انقلاب الهواري بومدين، بعد أن ناضل من أجل الاستقلال وأسس مسرحها بعد الاستقلال، وكان أحد رموزه المهمة؛ ولا السلطة الفلسطينية تذكرته وكرمته كما يجب تكريمه لأنه لم يكن شخصية عادية، لأنه انتمى إلى القضية الفلسطينية وكان أحد ممثليها في المغترب الفرنسي إلى أن اغتالته «الموساد» في ذلك اليوم الساخن المشؤوم 28 جوان 1973، وهو يستعد لركوب سيارته R16 الزرقاء. وظل السؤال معلقاً، كيف وصلت إليه يد الموساد الدموية وهو الرجل ذو المائة وجه ووجه؟ كل ما يعرف عن ليلته الأخيرة هو أنه قضاها برفقة صديقته، وفي الصباح خرج وحيداً، وأول ما جلس في السيارة المفخخة تمزق جسده كلياً بفعل الانفجار مع أنه كان يراقب كل شيء قبل أية حركة.
كلما عدت إلى الملف السري الذي نشره المكتب الفدرالي بوزارة خارجية الدولة السويسرية، تحت رقم 39519 ويحمل عنوان: «الإرهاب الفلسطيني: جنيف، فيِينا، باريس كنقاط ارتكاز»، تأكد لي أن الرجل الذي شغل أوروبا، فرنسا وألمانيا والنمسا وسويسرا، لم يكن حظه كبيراً في العالم العربي وفي فلسطين تحديداً. قيمة هذه الوثيقة تكمن في كونها ترصدت كل حركات محمد بوديه، وسجلتها وبينت علاقاته النضالية ودوره في تنشيط الكثير من الخلايا النضالية النائمة في أوروبا، لصالح فلسطين التي استمر فيها بقناعة عميقة تجاه فلسطين وشعبها. حتى نهايته التراجيدية التي غطتها الصحافة العالمية يومها بعناوين يتصدرها «نهاية الرجل ذي المائة وجه ووجه»، نطراً لقدراته على التمويه لأنه كان يعرف أنه كان متابعاً من طرف المخابرات الإسرائيلية.
يسرد التقرير السويسري الكثير من محطات حياته بالتفصيل. اسمه الحقيقي حسب التقرير، هو بوديه علي، بينما [محمد] مجرد اسم مستعار. «ولد في 24 فبراير/ شباط 1932. تزوج في شهر جانفي من سنة 1968. شغل منصب مدير مسرح الغرب الباريسي «Théâtre de l’Ouest Parisien» في باريس، ويقيم في 29 شارع بوانود، الطابق الرابع. مواطن من جنسية جزائرية. أثناء تنقلاته بين فيينا وجنيف، اختار أسماء مستعارة كثيرة: بوايي موريس أندريس مولود في 20 سبتمبر/ أيلول 1931 في افينيون. بيرتان رولان، ولد في 16 يناير 1931، وفي جوازه الفرنسي فقد ولد في 16 نوفمبر 1930، تحت رقم 387، بتاريخ 16 يوليو/ تموز 1968. وكلها وثائق مزورة للهرب من متابعات الموساد التي كانت تتعامل سرياً مع الشرطة الفرنسية. إضافة إلى أسماء أخرى كثيرة مثل بيرتان بيير، وروبيرت، ورودريغ، وروجي، وسعيد بن أحمد، ولد في 1935 في المغرب رقم الجواز 12479/737، وأبو خليل، وأبو خالد، وبيتانشان، كان اسمه بين رفاقه السويسريين المناصرين للقضية الفلسطينية: «رودريغ بيرتان». ويشير الملف إلى تكوينه في الجزائر. فبعد المدرسة الابتدائية، التحق بوديه بالمركز الجهوي للفنون الدرامية في العاصمة الجزائر، ثم بين 1953 إلى 1955 التحق بالخدمة العسكرية في العاصمة ثم في ديجون، ثم اشتغل ممثلاً في مؤسسة البث الإذاعي والتلفزيوني الفرنس ORTFفي باريس. وكان ينشط أيضاً مع فرقة مسرحية جزائرية في الضاحية الباريسية. تركز الوثيقة أيضاً على نشاطه السياسي في الحركة الوطنية الجزائرية، إذ التحق بالثورة في 1957 ليصبح مسؤولاً عن الخلية الباريسية قبل أن يُبعث إلى مرسيليا وكان تحت قيادته أكثر من 3000 مناضل. كان يجمع الأموال للثورة الجزائرية، ورأس حربة في كل العمليات التي تحتاج إلى جرأة، لكنه أوقف في 9 سبتمبر 1958 من طرف الشرطة الفرنسية التي وجدت في بيته أسلحة. حكم عليه بـ 20 سنة سجناً مرفقة بالأشغال الشاقة، بتهمة الخيانة والتواطؤ مع قوى معادية، لكنه تمكن من الهرب في 10 سبتمبر 1961. عيّن بعد الاستقلال مباشرة مديراً للمسرح الوطني الجزائري في سنة 1963، قبل أن يُكلِّفه انقلاب العقيد هواري بومدين ضد ابن بلا في 1965، السجن والمنافي حتى الموت.
لم يكن بوديه يعتبر المسرح ترفيهاً ولكن أداة وعي ومجابهة، لهذا كان صاحب المبادرة الرمزية التي قرر بموجبها تخصيص مداخيل الموسم الصيفي للمسرح عام 1964 دعماً لكفاح الشعب الفلسطيني. كان ذلك بداية لتاريخ سيستمر ويزداد التحاماً مع القضية الفلسطينية في كوبا خلال لقائه بوديع حداد، المسؤول العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. فقد وضع خبرته النضالية كلها في خدمة النضال الفلسطيني، ثم عاد إلى باريس في مطلع السبعينيات بصفته قائداً للعمليات الخاصة للجبهة الشعبية في أوروبا، متخذاً اسماً حركياً جديداً: أبو ضياء. أول عمل قام به هو التنسيق مع الجماعات اليسارية الأوروبية؛ فقد كان المدبر الرئيسي لجميع عمليات الجبهة الشعبية في أوروبا في مطلع السبعينيات. عندما تم كشف أمر نضاله وسريته، أمرت غولدا مئير، رئيسة الحكومة وقتها، بالانتقام من مرتكبي عملية ميونيخ، وكان بوديه منهم. لنقرأ ما قاله إيتان هابر، رئيس ديوان رابين سابقاً، في جريدة يديعوت أحرونوت بتاريخ 3-10-2005: «كان محمد بوديه إرهابياً حقيقياً. كان أحد أفراد جبهة تحرير الجزائر. سُجن في فرنسا ثلاث سنوات، وأدار بعد إطلاق سراحه مسرحاً صغيراً في باريس. وكان رجل نساء. في 1972 تطوع بوديه لمساعدة الفلسطينيين، وأرسل إلى إسرائيل جماعة مخربين: ايفلن بارج، التي كانت المسؤولة عن صندوق مسرحه وعشيقته خارج ساعات العمل، والأختين ناديا ومارلين برادلي، وزوجين مسنين من الناس الغامضين. عندما وصلوا إلى مطار اللد، لم يوجد في حقائبهم أي شيء يثير الشبهة: فقد وُجدت ملابس، وأحذية، وأدوات استحمام وقطن. لكن المحققين اكتشفوا أن الملابس والقطن، كلها قد تغلغلت فيهما مادة متفجرة سائلة جُففت. في التحقيق معهم، قاد المعتقلون المحققين إلى بوديه». كان بوديه حذراً جداً. قرر الموساد ترصد بوديه في الممرات تحت الأرض للمشاة. فجأة رأوه. ومنذ تلك اللحظة، لم يتركوه حتى اغتالوه أمام المركز الجامعي لشارع فوسي برنار في باريس.
أمران ضروريان وجب التذكير بهما: أولهما، أن تعيد الجزائر الاعتبار لواحد من أهم الشخصيات الثقافية الوطنية ومؤسس مسرحها في الستينيات، بتسمية أحد مسارحها المهمة باسمه، والأمر الثاني أن تهتم المؤسسة السياسية والثقافية الفلسطينية بمحمد بوديه الذي انتمى إلى القضية الفلسطينية بكله حد التماهي فيها دافعاً الثمن باهظاً بقناعة المناضل وصرامته.