في غزة: «ميني ماوس» تطالب بالإفراج عن زوجها «ميكي» من قبضة السارق المحتل!
أردت أن أكتب إليكم منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ولكن أعاقتني جروحي.. نعم أعاقتني بشدة.. لقد كنت طريحة الفراش في مستشفى قصف عدة مرات.. كنت أتخبط في دمائي، ولم يسمعني أحد.. غبت عن الدنيا عدة أيام، ولا أتذكر شيئاً سوى الدمار ورائحة الصواريخ والدماء وجثث أفراد عائلتي المقطعة.. وحين استفقت من موتي علمت أن ممرضاً بطلا أنقذني بأعجوبة، ذلك الممرض لم يكن يأكل وجبته الوحيدة، التي كان يحصل عليها بفعل أعجوبة، بل كان يمنحها للأطفال الجائعين أمثالي.. لقد أخبرتني جارتنا أن المحتل أغلق أبواب الرحمة كلها، في حصار لم تعرف له البلاد مثيلا.. هكذا كان الممرض الشاب يأكل من طعامه لقمة أو لقمتين تصبره على احتمال جوعه، ويقدم لي الباقي كي يؤجل موتي قليلاً.. هكذا أنقذ العديد من المرضى، فهو لم يغف طيلة الأشهر الماضية سوى ساعات قليلة جدا، إلى أن نام نومه الأخير.. نعم لقد مات ممرضي متأثراً بجروحه، التي لن تخمد رغم غيابه.. ولم يكن موته مؤثراً، فالجميع في أرضي شهداء على قيد التنفيذ أو أحياء حتى إشعار آخر أو حتى هبوط صاروخ جديد.. ومع ذلك ما زلت لا أفهم، وقد يكون ذلك بسبب صغر سني: كيف يصبح موت أكثر من 29 ألف شهيد مجرد خبر عادي تتناقله الصحف! ولكننا رغم ذلك كله سمينا ممرضي بطلاً.
عدت اليوم لأخبركم عنه وعن أشياء أخرى كثيرة تؤلمني، ومن كثرتها لا أعرف من أين أبدأ.
ولكن هناك شعورا بشعا يطاردني على مدار الساعة، وأحياناً يدفعني أصرخ بشكل لا إرادي قائلة: أنا جائعة جداً.. جائعة منذ أشهر طويلة.. واليوم لم يعد أمامنا أنا وأصدقائي سوى أن نأكل أكل «الحمير»، كي نسد به جوعنا.. وأنا لا أحب أكل الحمير حتى حماري «ذكي» لا يحبه. لقد رأيته يرفسه مرات عديدة، وكنت حينها ألملم بعضه ثم أغمض عينيّ وأقفل أنفي بيد وبالأخرى أحاول أن أبتلعه سريعاً.. وأحياناً كان يخيل إليّ أن حماري ذكي ينظر إليَّ ساخراً ومتعجباً من التهامي السريع لحشيش يكرهه..
أمس كنت أمشي أمام خيمتي وسمعت جاري أيام التشرد يقول لأحد المراسلين: أتمنى أن يموت أطفالي جميعهم، فأنا ما عدت أحتمل رؤيتهم جياعاً.. كم أشعر بالعجز الشديد في كل مرة يطالبونني بقطعة خبز ولا أجد أمامي سوى أكل الحيوانات أقدمه لهم.. وكان على الناحية الأخرى من الطريق عجوزان ينتظران ببؤس ويأس وانهزام أن يملأ أحدهم ولو القليل من الطعام صحنيهما الفارغين!
لم يكن كلام الرجل سهلاً عليّ، لكنه خفف قليلاً من تلك الآلام التي تعتصر أحشائي منذ فقداني لوالديّ وإخوتي، فهم على الأقل رحلوا قبل أن يجوعوا كثيراً.. قبل أن يشاهدوا المزيد من الجرائم في حق أطفال غزة.
ما عدت أحب الخروج من خيمتي كثيراً لأني أخاف من رؤية آلام الآخرين، فأنا بالكاد أمشي بآلامي. هل أخبرتكم أين وجدت صديقي الصغير منير، بعد أن بحثت عنه لساعتين أو أكثر؟ وجدته نائماً على التراب بجانب شجرة يبكي بصوت منخفض، وحين اقتربت منه أخبرني أنه يشعر بالجوع والبرد الشديد.
منذ يومين أو ثلاثة ما عدت أذكر التاريخ بالتحديد، ولكني كنت أنا ورفاقي الصغار جالسين على الشاطئ، وكنّا ننظر نحو السماء.. فجأة حلقت طائرات وراحت تمطر في البحر مساعدات قيل إنها من الأردن.. ركض الجميع نحو البحر.. لم نكن نأبه بالموت غرقاً، فالموت غرقاً قد يكون أخف حدة من الموت جوعاً وعطشاً! كيف لا، وفي الأفق البعيد ياسمينة دمعتها بيضاء تدفع غيمتها بكلتا يديها ليتمرجح الأطفال فوق الحبال الشقراء. هكذا أصبح الغرق لذيذاً، وربما لنفس السبب هبت السماء لتمطر بأرغفتها فوق الأمواج.
أنا خائفة جداً.. أخاف من الوحوش والديناصورات الحيّة: كنت أعلم أنهم يسرقون أشياء الكبار، فقد نهبوا المال من البيوت وأخذوا ثياب النساء حتى الداخلية منها، وتباهوا بسرقة حذاء عروس، حتى أنهم استولوا على الطناجر والملاعق، ولكني لم أكن أعرف أن تلك المخلوقات المروعة تحب ألعاب الأطفال! لقد سرقوا دراجة ابن عمي وغيتاره، ولم يكتفوا بذلك فقط، بل أخذوا من سلة ألعابي «ميكي ماوس» الضحوك. وكان لعبتي المفضلة. لقد رأيت الجندي السارق وصديقه يلتقطان الصور معه! لقد بدا ميكي متجهماً خائفاً منهما.. فمن يرى الدمار في غزة وجثث الشهداء، التي أكلتها الكلاب بعد أن منع جيش الاحتلال الإسرائيلي وصول الإسعاف إليها، ومن سمع بقصة الطفلة هند رجب وقصص كثيرة لا تحصى ولا تعد ولا تقل وحشية أو بشاعة، سيعلم أن ميكي في خطر كبير وحقيقي.. وأنا لن أتمكن من إنقاذه أبداً.
وقبل أن أبعث برسالتي إليكم، اعلموا أنها قد تكون على الأرجح الرسالة الأولى والأخيرة، فأنا شهيدة الغد أوصيكم، بعد أن فقدنا الأمل بأن ننال نحن أطفال غزة تعاطفكم، بميكي وبقطط الشوارع وبالعصافير المتعبة والكلاب العاجزة، فهي أيضاً تستحق الحياة.