كيف يفهم الأوربيون (الغربيون) الهاجس الأمني …!
د. ضرغام الدباغ
لنتوصل بادئ ذي بدء إلى تقارب في الرأي حول مفهوم ” الأمن القومي ” و مصطلح ” الغرب ” . هل مفهوم الغرب يعني كل الدول والكيانات التي تقع في الغرب، ثم إلى الغرب قياسا لمن ..؟ فأستراليا ونيوزيلندة مثلاً لا تقعان في الغرب، وإذا كانت أوربا مركز الغرب، فروسيا أقرب للغرب من الولايات المتحدة وكندا. إذن تحديد الغرب والدول الغربية لا يقوم على أساس جغرافي محض، بل سياسي، وإذا تساءلنا، لماذا والأمر كذلك لا يعتبر الغرب اليابان وكوريا الجنوبية ضمن البلدان الغربية، وهما من البلدان التي تتمتع الولايات المتحدة معهما بعلاقات عميقة ..!
إذن فحتى الأساس الاقتصادي / السياسي، لا يقع في المرتبة الأولى ضمن (بلدان الغرب)، إذن فلنرجح العامل الديني، وهنا سنقع في تناقض، إذ هناك كثير من البلدان المسيحية لا تعتبر من بين بلدان الغرب، إذن لنعتبر ما يدور همساً، ان التجمع الغربي هو تكتل مسيحي، وإذا تقف روسيا وبلدان شرق اوربا المسيحية / الأرثودوكسية في الموقع الآخر للغرب (رغم أن عديد من بلدان شرق أوربا متحالفة مع الولايات الاوربية)، ولكنها شرقية المزاج والانتماء العميق. إذن دون مواربة وبوضوح فإن العالم الغربي يتشكل بهذه الأولويات وأن مصطلح الغرب يعني بالتتابع : العالم المسيحي / البروتستانتي ـ الكاثوليكي، الرأسمالي، ومنذ نزاع بايدن/ ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بتنا نسمع تلميحاً أو تصريحاً، عن صراعات تدور لأول مرة ربما منذ نشوء الولايات المتحدة، بين الطوائف المسيحية في الولايات المتحدة، بين : البيوريتانية (Puritanism) والانجلوسكسون، والكاثوليك، والكلوكس كلان (Ku klux klan) (رغم أنها منظمة قديمة، ألا أنها كانت مهتمة بطرد العنصر الأفريقي من الحياة العامة بالدرجة الأولى ) تقف اليوم في الصراعات السياسية الأمريكية إلى جانب اليمين التطرف الذي يمثله الأجنحة المكونة للحزب الجمهوري بأفق فاشي. فاشية معاصرة لا تشبه بالضرورة فاشية إيطاليا (قبل أكثر من 100 عام). بل أن التشابه يكمن في الجذر الآيديولوجي والسياسي.
كتب السياسي الأمريكي البارز روبرت مكنمارا (Rober McNamara) الذي عمل في مراحل مختلفة، مستشاراً للرئيس الأمريكي، ووزيراً للدفاع، ورئيساً للبنك الدولي كتاباً مهماً (بعنوان : أمن الغرب ) نشر في ألمانيا عام 1970بعنوان..،(Die Sicherheit des Westens) وقرأناه خلال دراستنا، في نهاية السبعينات، ومطلع الثمانينات، وفي هذا الكتاب حاول كاتبه أن يثبت أن هناك أخطار جسيمة تهدد العالم، مما يحتم على الغرب أن يتحد ولكي يقاوم هذه الأخطار ويلعب دور المنقذ للبشرية.
بالطبع الكتاب كان يحمل أنفاس ونكهة السبعينات حين كانت المعارك محتدمة في فيثنام، التي نجحت الولايات المتحدة في سحب بلدان عديدة من الناتو إلى حرب فيثنام، تحت عنوان ” الصراع بين الرأسمالية الديمقراطية، والاشتراكية التوتالية ” ، ومكنمارا نفسه كان يمثل أشد عناصر في جناح الصقور المتشدد، والذي كان يسعى جهده لتوسيع الحرب في فيثنام واستخدام الأسلحة الأشد تدميراً. مكنمارا كان يعتقد، وعبر عن آراؤه نلك بكتاباته، أو بسياسته العملية. أن أمن الولايات المتحدة يبدأ من وسط أوربا، ومن جنوب شرقي آسيا، من أجل إبقاء المحيطين : الأطلسي والباسفيكي، مجالاً حيوياً صالحاً للمصالح الأمريكية. والسيطرة عليهما تضمن الهيمنة على ساحات وميادين أخرى.
تلك أراء كونها استراتيجي أمريكي معروف(هانسون بالدوين / Hanson Baldwin) في مؤلف مهم ( ستراتيجية للغد / Strategy for Tomorrow )صدر عن جامعة جورج تاون / الولايات المتحدة الامريكية / 1970، يتحدث عن الأمن القومي الأمريكي حتى الثمانينات، وفي ذلك العصر الأمريكي يكتب بصراحة ” أن الأمن الثومي الأمريكي موجود في كافة بحار ومحيطات العالم، بل وحتى في الفضاء الخارجي “.
يتميز الموقف السياسي الدولي اليوم، بمستجدات تستحق أن تسجل حقاً كمستجدات على مسرح السياسة الدولية. فقد نهضت أوررا من كبوة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبكيانها السياسي الاتحاد الأوربي، (رغم الإشكالات التي تعتريه) وبقدراتها الاقتصادية وعملتها اليورو، باتت تمثل قطباً سياسياً لا يمكن تجاهله، وروسيا الاتحادية السياسية والاقتصادية والعسكرية التي أثبتت جدارتها، تمثل قطباً سياسياً مهماً، له وزنه، وكذلك الصين، والهند والبرازيل والمجموعة العربية وفي المقدمة مصر والسعودية والجزائر، ومجموعة دول الخليج، تجسد أخيراً في الإنجاز الذي تم تحقيقه بتـأسيس مجموعة بريكس ( Brics ) ككيان سياسي اقتصادي واعد، هذه أحداث مهمة وليست عابرة، يضاف لذلك، الإخفاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية الكبيرة للولايات المتحدة، وانحسار إشعاع العولمة، وانفضاض دول كثيرة عن تياره، ومجموع وإجمالي هذه الأحداث، تؤلف مظاهر جديدة على الساحة الدولية لا يمكن تجاهل قيمتها.
مثلت توجهات الولايات المتحدة صوب تشكيل معسكر جديد يضمها وبريطانيا، وكندا وأستراليا، ونيوزيلندة،، (AUUKUS) تنفيذاً واقعياً لسياستها “القيادة من الخلف ” (Drivng from behind) التي رسمت خطوطها الأولى قبل أكثر من عقد من السنوات (2013) هي إقرار أمريكي أن العواصف التي هبت وتهب، على مسرح السياسة الدولية، قد أحدثت تأثيرات وتغيرات لا يستهان بها، وتحث الولايات المتحدة الأمريكية حلفاءها الأوربيين أو غيرهم، بالاعتماد أكثر على أنفسهم، في الحفاظ على مصالحهم، وهذا يمثل إقراراً واضحاً :
- لم الغرب لم يعد معسكراً موحداً.
- أن المصالح الغربية لم تعد متحدة.
- أن الأطراف الساعية لتكوين أقطاب عالمية ، لم تفشل في مساعيها ..!
الحرب الروسية ـــ الأوكرانية ونتائجها النهائية، سيكون لها تأثيرها الكبير على سياسة الأمن والسلام في أوربا أولاً، وعلى العالم تالياً، فالغرب المؤسس والمنتج للكيان الصهيوني يفكر أن إسرائيل لم تنجح أن تكون كيانا مقبولاً قي ضل سيطرة وهيمنة الغرب على العالم، فكيف إن فقدت السيطرة والهيمنة ..؟ وبتقديرنا أن حرب غزة هي أحدى التصديات المبكرة لهذه النتائج، أراد من خلالها الولايات المتحدة وأوربا وإسرائيل وضع مرتسمات جديدة للموقف السياسي وعلى الأرض. في صراع واسع النطاق، يشمل تغيرات عميقة، وبتقديرنا أن النتائج لم تبلغ أهدافها المخطط لها على الأرض كما هي على الخارطة. فالخطاب الأمريكي يناشد حلفاؤه …” تدبروا أموركم ودافعوا عن مصالحكم، فاليوم الذي لن تستطيع الولايات المتحدة أن تهب لمساعدتكم ليس ببعيد “.
مفهوم الامن يفسر بحسب الحاجة :
- نستحسن شحن من نريد للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن جنودنا ورجال مخابراتنا لا يخضعون للمحاكمة. وترفض التوقيع على المحكمة الدولية.
- تفسير عشوائي للإرهاب، بحيث لا يشمل جرائمهم.
- بالمقابل من يقاوم حروبنا التوسعية فهو إرهابي.
الولايات المتحدة اضطرت أن تتراجع ولو قليلاً في حرب غزة، وأمام المحكمة الدولية، فالمواجهة الشاملة للعالم بأسره، لم يعد ممكناً، ومن المرجح أن الأمريكان والغرب قد توصلوا لقناعة، أن عهد الاستعمار ولى دون رجعة، والامبريالية تعاني من صعوبات غير مألوفة لها، العولمة فشلت فشلاً ذريعاً، لأنها أسوء من الاستعمار والامبريالية، والولايات المتحدة تخوض ما يطلق عليه العسكريون ” القتال التراجعي “، أي انسحاب منظم وتجنب الهزيمة المفجعة كما في فيثنام وأفغانستان. فأيام الاستيلاء على الثروات مجاناً ذهب بلا رجعة، وبقي الارث الاخلاقي الموجع …
حاولنا على عجالة وبأختصار شرح مفهوم معقد تنتابه الكثير من الشكوك والتمويه …!