شهادة سعد الله مزرعاني
في تكريم د. عبد الحسين شعبان
تحولات – بيروت
آثرت في هذه الشهادة، أن اقتصر على جانب قد أكون معنياً به، أو مطالباً، بالحديث عنه أكثر من الآخرين. لقد تعرفت إلى الدكتور شعبان في دمشق أواخر عام 7198 حين كنت مديراً لمكتب الحزب الشيوعي اللبناني هناك. زارنا فرحبت واستمعت. كان ذلك على خلاف تقليد سيء شائع بين الأحزاب الشيوعية. ذاك التقليد يجعل مجرد الاستماع إلى شكوى أو انتقاد لحزب ما أمراً محرَّماً يسيء إلى قيادة الحزب المعني، ويعد تدخلاً في أموره الداخلية… بمجرًد أن تستمع، فهذا يعني أنك تشجع الانقسام. وهكذا يصبح التعسف محمياً بقوة التواطؤ والتضامن “الأخوي” والجامع الرفاقي الأممي، الذي عوض عن أن يكون أداة لتنظيم الحملات، ولتبادل الخبرات، ولتعميم النجاحات وتفادي السلبيات والإخفاقات، يصبح وسيلة فظة للتستر والقمع والإمعان في الخطأ ومنع المساءلة والنقد!!. هل قلنا النقد: لن يرضى أبداً، الرفيق “أبو عمار” كبير الشيوعيين والمفوض السوفياتي الأعلى في المنطقة. لن يرضى أيضاً لفيف الأمناء العامين المؤصلين في تقاليد المدرسة الستالينية السوفياتية التي استمرت بعد وفاة صاحبها عام 1953، وحتى، بعد إنتفاضة خروتشيف علىيه(ومع خروتشيف نفسه) في المؤتمر ال20 عام 1956!!
كان على الرفيق شعبان، عضو الحزب الشيوعي العراقي، الشاب آنذاك، أن يواجه أسباب الخلل، من وجهة نظره، في المنطلقات، حتى الفكرية منها، وكذلك في بعض التوجهات والعلاقات والسياسات والممارسات..والواقع أنه انصرف إلى هذه المهمة، مباشرة، أو بشكل غير مباشر. وضمن مسار ومخاض فكري وسياسي وكفاحي جاد وجدي، وبعيد عن ردود الفعل الصغيرة المعتادة، فكان “تحطيم المرايا” أحد أهم انجازاته الفكرية والنقدية والتصحيحية في هذا الحقل. وهو استند في ذلك، إلى ما ارتاده من آفاق واسعة، وما راكمه من ثقافة موسوعية، ومعرفة وعلاقات عامة متنوعة ومساهمات وتفاعلات فكرية وأدبية وسياسية وقانونية( خصوصاً في الموضوع الفلسطيني.
هاكم، على سبيل المثال، استنتاجاته وبعضها في غاية الأهمية، بشأن التعامل مع التراث كجزء من مشروع التغيير في شروط وظروف ملموسة. كتب: “هنا أدون رأي الذي تبلور خلال العقود الثلاثة ونيف الماضية والذي مفاده أننا تركنا خزانة الكتب التاريخية والدينية للأحزاب الإسلامية أو الإسلاموية، وأدرنا ظهورنا للتراث العربي الإسلامي… كما أهملنا الإنتماء التاريخي لشعوبنا واعتبرناه من اختصاص قوى وأحزاب قومية أو قوموية…”. الزمن والنخب” ص 197.
إذن، لم يكرر “د. شعبان ما مارسه آخرون من ردود فعل على الخلاف، ومن ثم على الفصل، ومن أخطرها التخلي عن المبادىء والقيم، خصوصاً بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، بل هو ثابر على مواصلة رحلة بحث ومعرفة ونشاط وفعًال، استغرقت كل عمرة وأثمرت الكثير مما يصح معه القول: “رب ضارة نافعة”. لكن هذا القول ذو حدين: أحدهما تكلس المؤسسات الحزبية وتحولها بيئة طاردة للإبتكار والإبداع. ثانهما، أن يحفز على مراجعة، لم تحصل، بشكل جدي، حتى الآن، رغم الانهيارات الكارثية التي كشفت أن الخلل لم يقتصر على جانب واحد فقط( رغم صدق النوايا غالباً، ورغم الكثير من الإنجازات التي كانت ذروتها هزيمة النازية والفاشية بتضحيات هائلة وبأثمان باهظة!). كتب الشهيد مهدي عامل: محاوراً ومحذراً : “يتكون فكرنا الماركسي بنقد الفكر الماركسي المتكون”. هذه المعادلة الجدلية هي فقط، بإنتمائها إلى المنهج الجدلي الماركسي، كان من شأنها أن تعيد تصويب البوصلة والحياة إلى عقائدية مراوِحة، باتت أشبهه بدين جديد يحرسه المقدس وكهنة الهيكل وعبادة الفرد…
هل كان ينبغي أن ينخرط الفرد في مخاض معرفي وفكري، خارج أسر القيود والإلتزام الشائع، لكي يبدع؟ هذا سؤال خطير يُطرح على كل مشاريع التغيير وأساسها الأيديولوجي وصيغها التنظيمية. لا بد من مأسسة النقد لإطلاق التصحيح والابتكار والمبادرة. إذا غاب النقد، غابت هذه وحضر الصراع والتآمر والخواء… مأسسة النقد هو ترجمة لمبدأ لينيني شهير وثمين أدخله صاحبه في صلب التنظيم والحياة الداخليين للحزب الطليعي: النقد والنقد الذاتي. لم يؤمن ستالين بذلك أبداً. وهو طبع المرحلة التأسيسية الأولى للتطبيق بكاملها حين “جمع في يده سلطات” لا ينبغي جمعها ولاقدرة له على ضبط وحسن إدارتها، كما لاحظ لينين وهو على فراش المرض فالموت . تأسيس أو إعادة تأسيس مشروع التغيير التحرري العام، يجب أن ينطوي على عملية إبداع وابتكار شبه متكاملة، تستند إلى إعادة تقييم جدية وجذرية لكل تجاربنا التحررية السابقة، في المنطلقات والممارسات والنجاحات والإخفاقات..هذا حكماً، دون الإخلال بالأساسيات في الأفكار والمباديء والمواقف، وخصوصاً من امبراطورية الهيمنة والإستعمار والتسلط والإستغلال… على ما يدور في غزة الملحمة والبطولة والمقاومة والصمود وعظيم التضحيات.
تحية متجددة لصديقنا ورفيقنا د, عبد الحسين، الأكاديمي والمفكر والمجتهد والمناضل، وهو يواصل رحلة عطائه، بكثير من الدأب والإصرار والإنجاز .
بيروت في 6/2/2024