الرّواية ومقتل الحيادية الوهمية؟
كثيراً ما تنهض الأسئلة القلقة من عمق النصوص الأدبية وهي في حيرة وقلق حقيقيين: هل يلتزم النص بمرجعيات الواقع؟ أم أنه ينفلت من أسر الواقع فيصبح النص الأدبي والروائي تحديداً فضاء بلا تاريخ ولا ركائز ولا مرجعيات وكأنه محض خيال وتنسى أو تتناسى أن النص كيفما كان هو خاضع لسلسلة من الجاذبيات الظاهرة أو المبطنة، التي تتجاوزه، لأنه ينشأ داخل حقل أو سلسلة من الحقول بتعبير بيير بورديو، فتلونه بألوانها الاجتماعية المختلفة؟ لا يوجد شيء ينشأ في الفراغ، فالنص الأدبي/ الروائي ثمرة حية لمسار ثقافي معقد، وإلا ما الذي يجعل «إلياذة وأوديسة» هوميروس خالدة حتى اليوم ولا نمل من قراءتها على الرغم من الفاصل الزمني بيننا وبينها. كيف اخترقت رواية «الحرب والسلام» لليون تولستوي الزمن الذي كتبت فيه والحروب النابليونية، فتشكل اليوم جزءاً من ذاكرتنا الروائية؟ هل ما يحدث اليوم في غزة من جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية لا يعنينا بحجة الحيادية، أم أنه يهمنا بل يشكل جوهر كتابة «اللحظة» المرتبطة بالتاريخ؟ ولا تعني كلمة «اللحظة» ههنا بالشيء الطارئ والزائل، ولكن ما يدعونا إلى مساءلة إنسانيتنا في الزمن الذي نعيشه ولا يهمنا وحدنا ولكن الجنس البشري قاطبة، الذي أصبح مهدداً في وجوده بهذا المنطق. المشكلة الكبرى ليست في الواقع ولكن في قراءته أدبياً، أي كيف نلمس عناصره الخالدة بجمالية موائمة، ولا نعيد إنتاج الواقع بمعناه الأيديولوجي والسياسي. الإشكالية هنا وليس في الانفصال الكلي عن الواقع أو ما نسميه «الحياد»، الواقع ليس سيركاً نتفرج عليه ونحن غارقون فيه، صراعاً بين أسود ونمور ومروض يجعلنها تنصاع له، ولكنه لحظة تحتاج إلى عنصرين من الناحية الثقافية والأدبية، أولاً فهمها في مختلف تحولاتها، وثانياً نقلها إلى الحقل الأدبي بوسائله ونظمه التي ليست حتماً هي النظم السياسية والاجتماعية، أي تحقيق جوهر الكتابة «الأدبية»، ما يجعل النص ينتمي إلى حقل دون غيره.
من هنا يطرح سؤال الحيادية في النص الأدبي العربي، والروائي تحديداً، بوصفه قضية أساسية تتشكل من خلالها فكرة جدوى النص في معناه ومراميه. الكثيرون يقولون بفكرة أنّ النص مهما حاول أن يكون حراً وبعيداً عن المؤثرات التي تصنعه وتسهم في بنائه، يظل في النهاية رهين سلسلة من المعطيات الفردية الذاتية والمجتمعية التي تكبل القول وتجعله يسير باتجاه محدد دون غيره.
فالمجتمع الذي نبت فيه النص يفرض حضوره بقوة، بينما تلعب قناعات الكاتب الأيديولوجية كيفما كانت، الدور الحاسم في النهاية، بالسير بالنص الروائي نحو وجهة محددة المراد من ورائها، شعورياً أو غير شعوري، تمرير خطاب معين. ولكن الكثيرين أيضاً يبنون آراءهم على أطروحة أن النص لا قيمة تاريخية له إذا لم يتحرر من أسر صاحبه والمجتمع الذي ظهر فيه. «الأدبية» هي مقياس الفعل الأدبي الأساسي، وهي ما يحرر الرواية وغير الرواية، من يقين الأيديولوجية وجانبها التدميري الذي يحصر المنتَج في الخطاب الوثوقي الذي عليه تأديته.
نتفق منذ البداية أنه لا توجد حيادية في المطلق أبداً، كل شيء يخضع لمنظومة سابقة عليه وتؤثر فيه بقوة. لأنه، ببساطة، لا يوجد في النظام الفكري والثقافي البشري ما ينشأ من العدم. النص هو ثمرة كتابة لها تماس عميق بالذات الإبداعية الخاضعة لكل التحولات النفسية المعقدة، ولها تماس أيضاً بسياقات مجتمعية عامة، كما ذكرنا سابقاً، تتحكم فيه المؤسسات المحيطة به، أي أنّ النص الروائي لا ينشأ خارجها. وهو ما عمل عليه الباحث الاجتماعي الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu وأطلق عليه تسمية «الحقول الثقافية والأدبية Les champs culturels et littéraire التي تفرض نفسها مسبقاً، كشرطيات أساسية، على الفعل الثقافي أو المنجز الأدبي. السؤال الكبير في هذه الحالة هو كيف يفلت الكاتب الاستثنائي من أسرها الثقيل؟ النص كمنجز معقد أكبر من الحيادية أو نقيضها، ما يقتضي بحثاً عميقاً في العناصر الصغيرة المشكِّلة للنص والتي تجعله يتفرد بهروبه من هذا «القدر» القاتل للإبداعية والأدبية، ما يشترط على الرواية أن تواجه سؤالاً مركزياً مهماً وحاسماً: كيف تستطيع هذه الأخيرة، في النهاية، تحويل كل هذه التفاصيل الحياتية المعيشة إلى مادة أدبية؟ وينتهي سؤال الحيادية إلى إعادة صياغة معطياته: هل استطاع النص الروائي أن يخرج من أسر العلاقة المباشرة التي تحول الإبداع بكل تعقيداته، إلى مجرد مادة اجتماعية هي ليست أكثر من صدى للمعيش؟ النص الروائي أكبر من هذا وذاك، هو إعادة صياغة لعالم مادي متحول إلى سلسلة من الافتراضات التي لا وجود لها عملياً في الواقع الموضوعي، إلا داخل النص. العبقري، بمصطلح لوسيان غولدما أو الكاتب الاستثنائي، هو الذي يستطيع أن يجعل من رؤيته للعالم وسيلة لتخطي المعطى التبسيطي للأدب، باتجاه ما هو أكثر أدبية وأصالة، حتى ولو تناقض ذلك مع قناعاته الشخصية والفردية والخاصة. لنا أمثلة في التاريخ، بلزاك مثلاً أهان الطبقة الأرستقراطية التي كان ينتمي إليها حياتياً لحساب الطبقات الأكثر انكساراً وفقراً، فدافع كتابياً عمن كانوا في حاجة إلى صوته لرفع الظلم عنهم. لم يكن أدبه مجرد صدى لقناعاته الخاصة.
ينطبق هذا أيضاً على تولستوي الذي عاش في مجتمع القنانة والعبودية، ورفضه كلياً، وأدان الوجاهة الإقطاعية والإدارية الكاذبة لطبقة كان ينتمي إليها في «أنا كارنينا»، وانتصر للحب حتى ولو تناقض ذلك مع الأخلاق التي كان يؤمن بها. الأدب العظيم هو تخطي الثنائية واقع / ذات، باتجاه عنصر ثالث ينشأ من أعماق النص المتفاعل والأدبي بامتياز. لهذا، يتغير مفهوم الحيادية في المعنى الذي نعطيه لها، ويتبطّن ذلك السؤال الأبدي للإبداع: كيف ننشئ من عالم مادي ضاغط وبائس، محكوم بالإيديولوجي والسياسي والزمني المحدود، عالماً تتسع فيه الحرية كعنصر حاسم، حرية الرؤية والبناء والمعنى؟
تبدو أحداث غزة القاسية واللاإنسانية ميداناً خصباً للإبداعية على الرغم من المأساة المعيشة بألم غير مسبوق، إذ يحدث كل شيء أمام أعيننا ولا يمكن للإبداع أن يقف متفرجاً باسم الحيادية، لذلك مخاطره التي نراها قريبة منا، إذ يصبح النص، بحجة الحيادية من عدمها، مجرد صدى لما نراه. الأدب/ الرواية أكبر من ذلك وأكثر تعقيداً.
اللحظة المعيشة ليست في النهاية إلا مادة خاماً تحتاج إلى يد تصنعها وتعطيها المعنى اللازمني الذي يتخطى اللحظة الزائلة، وإلا سيكون النص مجرد مذكرات أو مشاهدات مشروطة بالزمن، تنتهي بنهايته. لا نريد لمأساة إنسانية بهذا الحجم وغير مسبوقة أن تُقتَل داخل الأدب أو ما يسمى كذلك. وتلك هي قضية كبرى وعظمى.