كلمة د. أوغاريت يونان
ندوة تكريمية للدكتور عبد الحسين شعبان
“زمن فلسطين والثقافة العربية”
مجلّة تحوّلات، بيروت
6/2/2024
يسرّني أن أكون هنا في تكريمكَ.
شكرًا العزيز الأستاذ سركيس أبو زيد ومجلّة “تحوّلات”؛ لبّيتُ الدعوة من أجل د. شعبان ومن أجل فلسطين.
ورأيت أنّنا ثمانية متكلّمين! قلتُ، أختصر ما عندي في القلب، منّي ومن وليد، وعلى طريقتي.
شعبان. فلسطين. الثقافة: ثلاثة عناوين في ندوة.
لكَ العزيز حسين شعبان،
الأنيق المحبّ للفرح المنصرف إلى أسلوبه في الحياة بنجوميّة وديناميّة وكرم وثقافة ومرونة… ليس سهلاً على مَن انخرط في إيديولوجيّات مُحكَمة، باكرًا، أن يعود ويخرج إلى ضوء المرونة والتجدّد. خلال معرفتي بك، رأيتُ هذا الصحافي، الكاتب، المحلّل، المنتشر شرقًا وغربًا، المثقف، الباحث والمنجذب إلى أكثر وأكثر، الراوي الحافِظ لذاكرة بإبهارٍ كأنّ في نصوصك رزنامة زمن ودفتر أسماء وعناوين وحكايات وسردٍ بكلّ الأحرف والأرقام، ومعها هذا الربط الشاغل بالك بين السياسة والتاريخ والسوسيولوجيا والدين والنضال من النجف إلى الماركسيّة إلى القوميّة إلى حقوق الإنسان والحرّيات إلى اللاعنف…
سأحرص، بصداقتي لك ومعك، أن تستقرّ هنا في اللاعنف في هذه الخاتمة الفكريّة الإنسانيّة السعيدة، وفيها تغربل أنت بأسلوبك، ممّا سبق في مسيرتك، من جذورٍ متجانسة لفكر الخير والعدالة.
التقينا بدايةً في مؤتمرات حقوق الإنسان العربيّة، وكنتَ رمزًا للآتي من العراق. ثمّ مرّت سنوات… وحين أسّسنا جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان، عام 2009، أول جامعة من نوعها في المنطقة والعالم لاختصاصات أكاديميّة ودراسات عليا غير مسبوقة، اتصلتُ بكَ وقلتُ: هذا مكانك، وهذه إضافة في تلك المسيرة. وجئتَ أنتَ بكلّ اندفاعٍ وسرور، وغدوتَ من أسرة الجامعة. وعرّفتُك على وليد صلَيبي، المفكِّر المؤسِّس، وحلّ الانسجام الودّي بينكما من ’أول نظرة‘. أقول لكَ اليوم، أنّني حينها تأثرتُ جدًا بهذا الفرح بينكما. وليد، يقول عنه أصدقاؤه، إنّه كطفل لا يتفاعل إلاّ متى أحسّ بشيء حقيقي يلامسه من الداخل، يعبّر بصدق عمّا يشعر به وحسب، وبذكاءٍ فائق لا يوهمه شيئًا من أوهام الدنيا أو البشر… فعلاً أحبَّك وأحبَّ شخصيّتك.
إصرارُكَ على الشباب والحبّ والتنوّع والسلام، يكفي لي كي أعرف من أنتَ، بدون أن أقرأ كتبك. شخصيّتُك تسير أمامك. وحتّى بعد أن أقرأ، وحتّى لو كتبتَ أنتَ أمرًا آخر، لن أصدّقك. صفاتُك هذه التي تطلّ بها علينا هي أنت. خلّيك هيك…
الصديق حسين شعبان،
في الحياة، ليس هناك من أصدقاء، بل لحظات صداقة؛ لا سعادة شاملة، بل لحظات سعادة. لحظاتٌ لديها نعمةُ الوردة بدون أشواك. نعمةُ الوردة، ربّما عنوان مقال جديد لك، ما رأيك؟
وليد كان يقول لي، “نحبّه كما هو”. من جهّتي، أقول، لا نفكر لا في الماضي ولا في المستقبل، بل نعطي الحاضر للصداقة. أنتَ صديق.
تقول في كتابك “مذكّرات صهيوني” في الصفحة 14-15: «…طريقة التفكير الصهيونية…من وسائل ماكيافيلّية يتمّ فيها تبرير الوسيلة بزعم الوصول إلى الغاية، علمًا أنّ الغاية هي من شرف الوسيلة، ولا غاية شريفة إنْ لم تكن الوسائل شريفة، وحسب المهاتما غاندي، فالوسيلة إلى الغاية هي مثل البذرة إلى الشجرة، فهما مترابطتان عضويًّا…».
من هذا الركن أذهب معك إلى فلسطين. مع محبّتي وتضامني مع أهل فلسطين في كلّ مكان، وفي غزة اليوم والضفة اليوم والقدس اليوم… لن أقول أكثر اليوم، فالندوة تكريميّة.
من البديهي أن تكون هذه قضيّتك، وأن تكتب لها وعنها. هذا بديهي. قضيّة فلسطين النبيلة لا تستحقّ إلاّ غايات ووسائل نبيلة، أي ما نسمّيه نحنُ مقاومة لاعنفيّة. إنّها “نعم للمقاومة لا للعنف”، عنوان كتاب وليد صلَيبي، الذي أطلق أسُسَه في منتصف التسعينات، ثمّ أصدر الكتاب كاملاً عام 2005 وأعيدت طباعته عام 2015، واعتُبِر في فلسطين هديّة استراتيجيّة لا مثيل لها، وكان أطلق أولى التدريبات على “انتفاضة الحجارة” منذ العام 1988 وهي في عزّها في فلسطين…
كتبُك عزيزي الدكتور شعبان التي صدرت مؤخرًا، وقد أهديتني إيّاها، وفي توقيعك كتبتَ “إلى جامعة اللاعنف هديّتي مع الاعتزاز بزمالة الفكر ورفقة العمل والإخلاص للّاعنف”، فيها كشفٌ لأسرار ومعلومات من مصادرها أعطيتَ لها الكثير من وقتك وجهدك وحسّك البحثي وتنوّع علاقاتك وأسفارك ومقابلاتك مع الشخصيّات الصانعة تلك الأحداث، ومن كلّ هذا استخلصتَ مواقف تدين عنف الخارج وتشير إلى هلاك الداخل، تميّز بين المقاومة لغاية نبيلة والعمل السلطوي المشوِّه لها، تضيف توضيحات (كتابك “عصبة مكافحة الصهيونيّة”) عن الصهيونيّة وزيف تمثيلها اليهود في العالم، وعن الصهيونيّة والنازيّة في لحظةٍ مصلحيّة واحدة، تساعد على الوعي ونشر الوقائع، وتتيح الحُجج بوجه السياسات المهيمِنة والقرارات المضلِّلة…
أنت تناضل في ميدانك، ميدان البحث وكشف المعطيات، ببراعة.
فشكرًا على توثيق التاريخ للعدالة ولبناء تاريخٍ آخر.
أمّا عن الثقافة، العنوان الثالث في موضوع هذه الندوة، واختصارًا، فألتقي معك في عنوانٍ ورد في كتابك “الغرفة 46 سرديّات الإرهاب”، وسؤالك: “العنف والثقافة هل يلتقيان؟ الضفّتان هل تلتقيان؟” وجوابنا معًا، على ما أعتقد، أنّه بالطبع لا. فالثقافة هي زرعٌ، بينما العنف تدمير. الثقافة بناءٌ وتواصل، أمّا العنف فأذىً وقطع صِلات… برأيي، إنّ من أولويّات المثقّف، بالأخصّ المثقّف العضوي المناضل المحبّ للحياة، إعادة النظر في العنف. إنّها المهمَّة التي على عاتق كلّ منّا. قلّةٌ قامت بإعادة النظر هذه، في ظلّ تنشئة ومفاهيم وتقاليد وإيديولوجيّات وتبعيّات دينيّة وسياسيّة إلخ، مجّدت العنف أو جمّلته أو حتّى جعلته نهجًا لا مجرّد وسيلة ظرفيّة. ما من شيء اسمه الضرورة إلاّ بارتباطه بالخير. هذا ما نعرفه منذ أفلاطون الذي بحث عميقًا في ماهيّة الضرورة وماهيّة الخير. من جهّتي، أخلص هنا إلى القول، إنّه حين نضع في قلب كلمة الضرورة أو بدلاً منها، اللجوء إلى العنف على أنّه ضرورة، يصبح إذذاك العنف في خطٍّ مستقيم موصول بالغاية التي هي الخير، وهنا تكون الواقعة قد وقعت وعطّلت المفاهيم في أذهاننا، إذ إنّ العنف والخير خطّان لا يلتقيان، فكلّ منهما من طينة نقيضة للآخر. القضايا المحقّة تحتاج إلى القوة والشجاعة، إلى جرأة المقاومة. والقوة ليست العنف. نحن نحتاج أن نكن أقوياء لكن ليس عنيفين. وإذا كنّا لا نعرف كيف أو لم نتعوّد على ذلك، فالتواضع أمام معرفة جديدة كفيلٌ بمعالجة هذه الهوّة في ثقافتنا. وهذا بالتحديد أحد أهداف جامعتنا، جامعتك دكتور شعبان. إنّه دور الثقافة أولاً في أن تعود وتساعدنا في إعادة النظر بين القوة والعنف، في سائر مجالات الحياة. لقد شوّهوا القوّة حين دمجوها بمعاني العنف. لقد جمّلوا العنف حين أضفوا عليه معاني القوّة. وها نحن نرتكب الإعدام ونقول “عدالة”، نرتكب جريمة عائليّة وعاطفيّة ونقول “شرف”، نعلن “السلام” ونرتكب الحرب، نعلن “اللجوء إلى القوّة” ونرتكب العسكرة، نقول “ثورة” ونرتكب القتل، نقول “تربية” ونرتكب صفع الطفل والطفلة… إنّ مسؤوليتنا الثقافيّة الأولى هي في إعادة معاني شجاعة اللاعنف إلى القوّة، وجعل العنف مكشوف الاسم والمعنى كما هو.
دمتُم بخير،
ومبروك للعزيز الدكتور المفكِّر عبدالحسين شعبان،
أوغاريت يونان
مؤسِّسة جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان AUNOHR