رداً على وجدي المصري: هل تنقض مقولة الهلال السوري الخصيب عروبة العراق وسوريا؟
علاء اللامي*
بالإشارة إلى المقالة المطولة بقلم السيد وجدي المصري بعنوان “العروبة والهلال الخصيب: حول دراسة علاء اللامي” في الأخبار عدد 3 تشرين الأول 2023، أسجل الملاحظات التالية: سيقتصر ردي على مجموعة من التوضيحات التي تصحح بعض مواضع سوء الفهم أو سوء القراءة – وليس كلها – التي وقع بها المعقب. ولن أرد على المضامين والعبارات المسيئة للعرب كأمة وهوية في مقالته وهي كثيرة من قبيل اعتبارهم غزاة ومحتلين لما يسميه “الهلال السوري الخصيب”، ومساواتهم بالغزاة الرومان والإغريق والفرس والفرنسيين والأميركيين. وتجريدهم من أي إنجاز حضاري – غير الأشعار كما كتب – ووصمهم بالتخلف، والقول بأنهم “لم يكونوا سوى طلاب حضانة على مقاعد الحضارة الإنسانيّة العالميّة” مقارنة بما يسميه “الحضارة الأولى في العالم حضارة سوريا الكبرى”، والتي لم يفلح دعاتُها في الاتفاق تماماً على أصل تسميتها، ومتى ظهرت بالضبط؟
وحتى حين يعترف المعقب بوجود حضارة عربية فهي عنده “حضارة طارئة ومرتكزة على الدين واللغة اللذين فُرضا بحدّ السيف”، ويعتبر بلاد الرافدين، بحضاراتها السومرية والأكدية البابلية والآشورية والكلدانية وأخيرا العربية الإسلامية في طورها العباسي، مجرد نتوء متمم لمقولة “الهلال السوري الخصيب”. أقول؛ لن أردَّ بعبارات من النوع ذاته على كل هذه الإساءات لتفادي الانجرار إلى جدالات أيديولوجية لا علاقة لها بالبحث العلمي، وسأكتفي بكشف جوهرها الانعزالي عبر التركيز على مقاربة الجانب البحثي المنهجي لمقاربة الموضوع.
خرافة الهلال السوري الخصيب
إنَّ مقولة “الهلال السوري الخصيب” التي يستعملها المعقب، وكأنها مقولة علمية لا تقبل الجدل، تستلهم في الواقع عبارة وصفية إنشائية حديثة هي “الهلال الخصيب”، كان قد ابتكرها أو ارتجلها المستشرق والآثاري الأمريكي جيمس برستد (1865 – 1935) قبل قرن تقريبا. وقد أضاف إليها المعقب اسم سوريا المشتق من اسم واحدة من دول وادي الرافدين هي (آشوريا/ آسوريا)، أطلقه الغزاة السلوقيون على منطقة غرب الفرات وفق أرجح التفسيرات.
أطلق برستد هذا الاسم على حوضي نهري دجلة والفرات وامتدادهما نحو الجزء الساحلي من بلاد الشام في كتابيه “الخطوط العريضة للتاريخ الأوروبي” الصادر سنة 1914، وكتابه “العصور القديمة – تاريخ العالم المبكر” الصادر سنة 1916، بسبب عدم وجود مصطلح جغرافي قديم ومتفق عليه يجمع أقاليم هذه المنطقة الشاسعة في ما نسميها اليوم بلاد الرافدين وبلاد الشام. وقد شاعت هذه التسمية “الهلال الخصيب” في اللغة السياسية والبحثية الجغرافية والتاريخية لاحقا لهذا السبب بالذات. وعلى هذا، يريد لنا السيد المعقب أن نوافقه الرأي على تحويل الوطن الأصلي والأقدم ومهد حضارات الشرق أي بلاد الرافدين إلى مجرد جزء أو نتوء متمم لما يسميه “سورية الكبرى” أو “الهلال السوري الخصيب”.
ثمة فرضيات مختلفة تحاول تفسير وتأثيل اسم “سوريا/ سورية”، ولكنَّ أقدم إشارة وصلتنا إلى لفظ قريب من الاسم وهو “سورا”، عُثر عليها في نصب شينيكوي (قرية تبعد نحو 30 كم جنوب أضنة بتركيا)، وورد فيه اسم آشوريا مكتوبا باللغتين الفينيقية وباللوفية الأناضولية المنقرضة بلفظ “سورا”. وصار نقش شينيكوي موضوع دراسة نشرت في مجلة (دراسات الشرق الأدنى Journal of Near Eastern Studies) بقلم روبرت رولينغر يدعم فيها الرأي القائل إن اسم سوريا مشتق من آشور.
إنَّ المعقب ليس الوحيد، ولا الأول الذي قال بفكرة تبعية بلاد الرافدين لسوريا الكبرى فهي تعود إلى مرحلة تأسيس الحزب “القومي الاجتماعي السوري”. فالأستاذ علي حمية مثلا، في رد سابق له على إحدى مقالاتي (الأخبار23 كانون الأول 2021)، اقتبس عن أنطون سعادة قوله: “إنَّ العراق، أو منطقة ما بين النهرين، هو جزء (متمّم) للأمة السوريّة والوطن السوري، وكان يُشكل جزءاً من الدولة السوريّة الموحّدة في العهد السلوقي ويجب أن يعود إلى الوحدة القومية التي تشمله، حتى لو اقتضى الأمر تعديل اسم سورية وجعله سوراقية”، ويبدو أنهم ما يزالون مترددين في اعتماد هذا الاسم المفبرك والخيالي “سوراقية” بعد مرور قرابة القرن على هذا الكلام غير الدقيق تأريخيا كما سنوضح!
هل بدأ التأريخ مع سلوقوس؟
وهكذا، فالتاريخ يبدأ عند البعض مع تشكيل ولايات وأقاليم الاحتلال السلوقي للعراق والشام سنة 312 ق.م. أما الدول الإمبراطورية والحضارات الرافدانية العريقة طوال ثلاثة آلاف عام، ودول وإمارات بلاد كنعان وآرام وفينيقيا غربا فلا قيمة ولا وجود لها في هذا التاريخ المؤدلج! بل إنهم لا يقيمون اعتبارا لكون العراق كان إقليماً مستقلاً ضمن الدولة السلوقية نفسها وكان يضم ولايتين “ميزوبوتاميا الشمالية” أي ما بين النهرين وولاية “بابيلونيا” جنوبا. بل إن عاصمة الإمبراطورية السلوقية آنذاك لم تكن في سوريا وإنما على مسافة 29 كم جنوب بغداد وهي مدينة “سلوقية”، وقد أنشأت عام 307 ق.م، لتصبح عاصمة الإمبراطورية كلها في عهد سلوقس الأول؛ ثم استولى عليها الفرس الفرثيون عام 140 ق.م، وبنوا قربها مدينة قطسيفون عاصمة الساسانيين، وبعد حرب الفتح وتحرير العراق من الاحتلال الفارسي الساساني أقام العرب مدينة “المدائن” على أنقاض سلوقية وقطسيفون، وعلى هذا يحق للعراقيين المعاصرين – لو كانوا مغرمين بدويلات الغزاة – لاعتبروا العراق مهد الإمبراطورية السلوقية وفيه عاصمتها وجغرافيتها الأوسع!
أما في إقليم سوريا السلوقية – كما يكتب باسيليوس زينو – يشمل “الإقليم الذي يضمّ المدن السورية الأربع: أنطاكية، وسلوقية بيروية (حلب)، وأفاميا على نهر العاصي، ولاوديكية (اللاذقية) على البحر. ويشير مصطلح “سورية الشرقية” إلى المنطقة الواقعة بين بيروية (حلب) ونهر الفرات. أمّا مصطلح “سورية المجوّفة”، فهو الإقليم الواقع إلى الجنوب من نهر الإيلوثيروس، ويشمل هذا المصطلح فينيقيا”. ويضيف زينو “وقد جرى التمييز بين ميزوبوتاميا الشمالية، وهي المنطقة الواقعة بين نهرَي دجلة والفرات شمال مدينة بغداد الحالية (بلاد ما بين النهرين)، وبابيلونيا، وهي المنطقة الممتدّة جنوباً من بابل وسلوقية دجلة”.
يُذكَر أن ولايات الاحتلال السلوقي في بلاد الرافدين والشام أقيمت خلال حالة فراغ سياسي وهزيمة عسكرية وحضارية قاسية لشعوب المنطقة بسقوط آخر دولة وحضارة رافدانية هي الدولة الكلدانية وآخر ملوكها نبونائيد سنة 539 ق.م، وبدء عصر الاحتلالات الأجنبية الفارسية فالإغريقية فالرومانية. ولم يبق من آشوريا الرافدانية سوى اسمها الذي استعمله الإغريق والرومان وأطلقوه على ولايتهم غرب الفرات.
الخطاب القومي العروبي والآخر السوري:
والواقع، فإنَّ هذا الخطاب الأيديولوجي الإلحاقي ليس حكرا على الكُتاب القوميين السوريين بل هو يشمل حتى بعض الكتاب والمترجمين القوميين العروبيين البعثيين في سوريا؛ فالكاتب أحمد داوود مثلا يكتب على ص 21 من كتابه “تاريخ سوريا القديم”: “أما سوريا التاريخ الحضاري القديم فقد عمل على طمسها ومحو ذكرها كلياً من التأريخ العربي، وذلك من خلال اختزالها واختزال حضارتها الكلية في حضارات ومواقع وأسماء جزئية كثيرة من قبيل نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: حضارة ما بين النهرين وحضارة وادي الرافدين وحضارة ماري ومملكة تدمر وسومر و أكاد وبابل وآشور ونينوى وأور وفينيقيا وأرام وبلاد الشام وبلاد كنعان…إلخ”، والحل عند هذا الكاتب يكمن في إلغاء كل هذه الأسماء والحضارات ودمجها في ما يسميه “سوريا التاريخ والحضارة” وهو بهذا الكلام غير العلمي يسيء لدولة سوريا وشعبها الشقيق ويحاول الترويج لنسخة رغبوية من نزعة “شبه إمبريالية” صغيرة لا تحترم الشعوب الشقيقة ولا تاريخها ولا المنهج العلمي في البحث التأريخي والإناسي “الانثروبولوجي” حين يعتبر حضارة بلاد الرافدين مجرد جزئية من التأريخ السوري في حين يقول التأريخ الفعلي أن كلمة (سوريا) نفسها اشتُقت من اسم إحدى الدول الرافدانية (آشوريا).
وقد شارك بعض المترجمين السوريين في هذا الجهد غير العلمي فترجموا بعض المؤلفات الآثارية الأجنبية بعيدا عن الدقة والأمانة العلمية. فالمترجم سالم سليمان العيسى مثلا، ترجم كتاب الباحث الفرنسي جان كلود مارغورون المعنون (les mesopotamiens)، وتعني الكلمة سكان بلاد ما بين النهرين أو “الرافدانيون”، ولكن تحت عنوان جديد طويل هو “السكان القدماء لبلاد ما بين النهرين وسوريا الشمالية”. ثم، وكأن المترجم لم يكتف بزج اسم سوريا الشمالية في العنوان، زاد وكتب عنواناً ترويجياً ثانياً تحت العنوان الرئيس في الصفحة الأولى من الكتاب هو “التراث والكنز الثمين الذي أبهر الأجانب – مفخرة سوريا”! وكتب المترجم مقدمة أخرى للكتاب زج فيها باسم “السوريين” ضمن شعوب بلاد الرافدين القديمة فكتب “إنهم السكان السومريون – الحوريون – الأكاديون – السوريون الذين تواجدوا في بلاد الدجلة والفرات، إنهم جميعا من الأصل السامي مصدر قوميتنا العربية، وهذه حقيقة تاريخية ثابتة…ص5″، وكأن الأفكار والمعلومات تتحول إلى “حقائق تأريخية ثابتة” بمجرد أن يقرر المترجم أو الكاتب ذلك بجرة من قلمه!
وأخيرا، هل من فرق نوعي بين المصطلح الذي صكَّهُ الفرنسي مارغورون “الرافدانيون” ومنه “بلاد الرافدين” ومصطلح “الهلال الخصيب” الذي ابتكره الأميركي جيمس برستد؟ ثم لماذا اللجوء لمبتكرات الباحثين الغربين الارتجالية وبدائلها المحلية موجودة وتفي بالغرض؟ وكيف يفسر لنا السيد المعقب أن الأسماء العريقة في إقليم غرب الفرات وحتى سواحل المتوسط والذي يسمونه سوريا الكبرى تارة والهلال السوري الخصيب تارة أخرى ويلحقون به بلاد الرافدين، وهي الأسماء الأعرق الأقدم من السلوقيين بآلاف السنوات كأرض كنعان وبلاد آرام وفينيقيا الساحلية تلاشت ولم يعد يأخذ بها دعاة “القومية السورية”، فهل تنبجس القوميات من أسماء الولايات التي يبتكرها الغزاة الغرباء عن المنطقة كالسلوقيين أم أن القوميات والشعوب هي التي تعطي أسماءها للدول والأقاليم؟ يتبع في الجزء الثاني قريبا.
*كاتب عراقي