ما خيارات الأردن في ضوء استمرار العدوان على غزة؟
يبدو بشكل جلي أن أنظمة دول عربية مثل الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية باتت تشعر بالحرج الكبير، منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة وحتى اليوم، خاصة أنها صاحبة الشأن بالدرجة الأولى والأكثر تضررا من هذه الحرب. وقد بدت سياسات هذه الدول للتعامل مع الحرب وتداعياتها غير مفهومة، بل متخبطة في هذا المجال.
والسبب في ذلك أنهم يرون أن قدراتهم للتأثير في مجرى الحرب محدودة جدا، في حين أن هنالك حالة من الغضب والاستياء في الشارع العربي بشكل عام وفي بلدانهم بالذات، تجاه ما يحدث من بعثرة للمواقف وعدم وجود موقف عربي مشترك لمواجهة العدوان الصهيوني على غزة، خاصة عندما بدأت تقترب مواقفهم من مواقف الشارع الفلسطيني والعربي، المُدرك بأن الإدارة الأمريكية شريك في موضوع تصفية القضية الفلسطينية. بالتالي لا بد من بلورة مشروع عمل مشترك على الأقل للأطراف الثلاثة، لقطع الطريق على المشروع الذي يحمله أطراف الإدارة الأمريكية، في ظل عدم رغبة هذه الإدارة في تحقيق أي شيء لوقف العدوان الإسرائيلي، بل بات واضحا أن زيارات المسؤولين الأمريكيين المتكررة لإسرائيل ليس الهدف منها الضغط عليها، بل تحقيق إنجاز سياسي لها، في الوقت الذي فشلت فيه حتى اللحظة إسرائيل في تحقيق إنجاز عسكري ميداني. وهنا لا بد من إلقاء الضوء بشكل أكثر تركيزا على الحالة الأردنية لفهم الموقف فيها، وهي الأكثر تأثرا بالحرب بحكم عوامل الجغرافيا والديموغرافيا.
والسؤال الأكثر إلحاحا هو، هل بوسع عمّان فعل شيء أكثر من الاحتجاج لدى الولايات المتحدة، وهذه موقفها واضح في دعم إسرائيل دون قيد أو شرط؟ أم أن بوسع عمّان أن تُقنع الأمريكيين بالحد من هذه الحرب؟ لقد وضح صانع القرار الأردني منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على غزة، أن فكرة استمرار الحرب ستكون كارثية على الجميع، وبالتالي حتى عليه كحليف استراتيجي أساسي للولايات المتحدة، التي تحتفظ بوجود استراتيجي لها فيه. كما حاول أن يُمنطّق هذه الرؤية لكنه فشل في ذلك، لأن الولايات المتحدة كانت لديها صعوبة في فهم ما يجري أيضا.
التطبيع مع إسرائيل والالتزام بمعاهدات السلام الموقّعة معها، في ظل الظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية والعدوان على غزة، سيُفقد أي طرف عربي مصداقيته أمام شعبه
ومع بوادر توسع هذه الحرب إقليميا بشكل من الأشكال، نتحدث عن اغتيال قادة من حماس في بيروت، والاستهدافات لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ظن البعض أن الاردن امتلك مساحة جيدة للتأثير على قرارات واشنطن، على اعتبار أنه أحد المحطات المهمة التي يمكن أن تُستهدف فيها مصالحها. وهو ما حدث بالفعل في الهجوم الذي طال أحد المراكز العسكرية الأمريكية قرب حدوده الشمالية مؤخرا. بالتالي فإن واشنطن ستضطر إلى استيعاب أن عدم الاستماع إلى دولة مثل الأردن في هذه المرحلة ستكون له كُلف سياسية كبيرة، على اعتبار أنها تحتاج الجغرافية الأردنية، في ظل حالة الاستهداف التي تتعرض لها، سواء في البحر الأحمر أو في غيره في الشرق الأوسط. لكن هل حقا بإمكان الأردن أن يفعل شيئا في هذه المرحلة، خاصة أن لديه قلقا من سيناريو التهجير إليه من الضفة الغربية؟ يبدو أنه لا الأردن ولا غيره بات قادرا على فعل شيء في هذه المرحلة، فالحرب ما زالت مستمرة، وبالتالي لا أحد يستطيع القول بأنها لن تتوسع. كما أن الفكرة التي سوّقها وزير الدفاع الإسرائيلي في موضوع الجبهات السبع، كجزء أساسي من عملية تأمين أمن إسرائيل، وأنها لا يمكن أن تقف الحرب في غزة ما دام لم تجف منابع الخطر المقبل من الجبهات السبع، فإن الأردن بلا شك سيدفع ثمن كل هذه الاحتمالات، لأن حدوده ستكون في حالة خطر ومحاولات نقل الأزمة إليه ستبقى موجودة، لذلك هو يبحث في كيفية وقف الحرب حتى لا تتوس،ع، لكنه لا يملك فرض هذه الجزئية على الولايات المتحدة، ولا على إسرائيل. والمعضلة الأكبر أنه بات متأكدا من أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعارض فكرة أمن إسرائيل التي يطرحها وزير دفاعها، وأن زيارة المسؤولين الأمريكيين الى إسرائيل وعلى رأسهم وزير الخارجية بلينكن ستبقى مستمرة، لكنها تحولت إلى ماكنة للدعاية الانتخابية للحزب الديمقراطي، في موضوع هل فعلا أمّنا أمن إسرائيل؟ أم ما زلنا دون ذلك، وليس للضغط عليها لإجبارها على وقف العدوان على غزة، لذلك وصل صانع القرار الأردني إلى نتيجة مفادها أنه مُستهدف لأنه بالنسبة لعدد من الأطراف، دولا وميليشيات، هو محسوب على الخط الأمريكي وأنه حليف أساسي للولايات المتحدة في المنطقة، لذلك لم يعد لديه سوى التعويل على فكرة أن إسرائيل في النهاية ستدفع ثمن كل هذه السياسات على المدى القصير والمدى الطويل أيضا، وأنها قد تكون دخلت في مرحلة عدم الأمن المقبل من عدة جهات ومن عدة جبهات، لكن السؤال المهم الآخر هو ما خيارات الأردن تجاه احتقان شارعه؟
لا شك في أن احتواء الغضب الشعبي في الشارع الأردني صعب جدا. وقد شهدت عدة مدن أردنية مؤخرا احتجاجات شعبية واسعة، تطالب بوقف حركة الشاحنات المحمّلة بالبضائع إلى إسرائيل، على اعتبار أن إسرائيل لا تحاصر غزة فقط، بل هي قد شرعت بممارسة حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني. كما يقول الشارع الأردني أنه رغم جلسات محكمة العدل الدولية في لاهاي والإدانات الواسعة لإسرائيل من كل أنحاء العالم، فإن الأردن ما زال يسمح بمرور بضائع إلى إسرائيل، وأن كل الاتفاقيات الاقتصادية بينه وبينها لم تُجمّد، وأن إلقاء بعض المساعدات إلى أهل غزة جوا لن يكسر الحصار، ولن يوقف الإبادة الجماعية. صحيح أن هنالك توترا شديدا في العلاقات الأردنية الإسرائيلية، لكن هذا لا يُقنع الشارع الأردني. وأن ما يصدر من تصريحات عن القصر ومسؤولين أردنيين آخرين على إيجابيتها كذلك ليست كافيه للشارع. وقد تبدو إسرائيل متوترة من هذه التصريحات، لكن يُفترض أن الأردن يعرف جيدا أن إسرائيل لا تتجاوب إلا إذا كان هنالك أضرار بمصالحها. وكيف يمكن أن يكون هنالك إضرار بمصالحها في حين أنها أعلنت في الخامس من الشهر الجاري، أن الأردن طلب تمديد اتفاقية الماء مقابل الكهرباء معها؟
إن ما يجب قوله وبصراحة تامة إن التطبيع مع إسرائيل والإصرار على عمليات التطبيع والالتزام بمعاهدات السلام الموقّعة معها، في ظل هذه الظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية والعدوان المفروض على غزة، سيُفقد أي طرف عربي مصداقيته أمام شعبه، بالتالي يمكن أن يكون عاملا في نشوء حالة من عدم الاستقرار الداخلي، لذلك على الدول العربية التي ما زالت تتعامل مع إسرائيل بمنطق التطبيع، أن تأخذ بعين الاعتبار الشعور الشعبي. وما يزيد المسؤولية على صانع القرار الأردني في هذا الاتجاه هو أن الأطياف السياسية الأردنية كافة ما زالت ملتزمة بالميثاق الوطني، ووجود حس شعبي بتقديس حالة الاستقرار في البلاد، ورفض تام للتدخلات الخارجية من أي جهة كانت، حتى لو كانت عربية. لذلك يجب الانصات إلى الشارع.