قصة موسى وفرعون بين الخطابين الديني والآثاري: هل يمكن التوفيق بينهما؟
علاء اللامي*
“كانت قصة حرب طروادة (1184 – 1194 ق.م) أسطورة في كتاب ديني يوناني ألفه هوميروس بين القرنين التاسع والثامن ق.م، وحين اكتشف الآثاري الألماني هانريش شليمان سنة 1870م مدينة طروادة تحولت إلى حقيقة تأريخية، فهل يمكن أن يحدث ذلك لقصة موسى وفرعون وغيرها من القصص التوراتية التي تكرر بعضها في الكتب الدينية الأخرى كالأناجيل الأربعة والقرآن الكريم مستقبلا؟”
هذه هي الخلاصة التي توصلت إليها الدكتورة منى حجاج أستاذة التأريخ اليوناني والروماني في جامعة الإسكندرية بمصر ورئيسة جمعية الآثار فيها، فهي لا ترى ما يمنع من حدوث ذلك، وعلى حدوثه إنما تعلق قرار اعتبار قصة موسى وفرعون في مصر القديمة حدثاً تأريخياً أما الآن فهي قصة في كتاب ديني هدفه الهداية كما تقول وليس التأرخة طالما عدمنا وجود الأدلة المادية الملموسة التي تؤكدها.
كان للسيدة حجاج لقاء فيديوي مع مدون وصانع محتوى هو أشرف عزت الذي يعرِّف نفسه على صفحته على مواقع التواصل بـ “المؤلف والطبيب والمخرج السينمائي”. ورغم نفوري غالبا من الفيديوات التي يتكاثر صناعُها غير المتخصصين والعابثين والمصابين بحُبِّ الظهور والشهرة “الطشة” هذه الأيام، ولكني أجد أحيانا في بعضها لقاءات مفيدة مع باحثين وأساتذة جامعيين متخصصين مفيدين يعرفون عمَّ يتحدثون بطريقة منهجية علمية متواضعة تفيد المشاهد والقارئ.
شاهدت مؤخرا تسجيلي فيديو؛ الأول وسأحدثكم عنه الآن والآخر في مناسبة أخرى. وسأنقل بعض تفاصيله وأعلق عليها بلغة الإعلامي الذي يعرض المعلومة ويحللها في سياقها لا بلغة الباحث المتخصص عارض العلم المنهجي ومُنشئ المفاهيم والنظريات فلست باحثاً أكاديمياً متخصصاً في الآثار والإناسة:
اللقاء إذن كان مع د. منى حجاج وفيه ذكرت المعلومة التالية بخصوص كلمة “فرعون” ومشتقاتها وقدمت مقاربة ذكية وعملية ولكنها توفيقية رغبوية أيضا لقضية شديدة الحساسية هي عن التناقض بين الكتب الدينية كالتوراة والإنجيل والقرآن من جهة وبين كتب علوم التأريخ والآثار الحديثة. هذه المقاربة العملية التي تنأى عن لغة التكفير وشطر الباحثين في المشهد العلمي إلى فريقين واحد مؤمن والأخر ملحد – على طريقة نظرية الفسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، لابن لادن – وليس إلى آراء ونظريات وفرضيات مختلفة ومتخالفة أحياناً، تقبل التصويب والتخطئة. ولكنها مقاربة قد لا تحل التناقض أو بين السرديتين الدينية والآثارية العلمية وفي الأقل تطرحها من منظار تحليلي هادئ ورصين ينأى عن التكفير الديني للخطاب الآثاري العلمي وحملته أو التسفيه العلماني المتطرف للطرح الديني والمدافعين عنه:
تقول السيدة حجاج: “كان الإغريق يسمون الملوك المصريين السابقين فراعنة وإلى الآن نسميهم كذلك، ولكن في الواقع لم يكن هذا اسم الفراعنة الحقيقي في مصر قديما.
فالمؤرخ والجغرافي اليوناني سترابو وهو مؤرخ موثوق لدى الباحثين المحدثين عاش في مصر لفترة وتجول فيها، وكتابه عن مصر يكاد يكون وصفا حقيقيا لمصر في زمنه “بعد سنوات قليلة من انتهاء العصر البطلمي” ولكنه لم يستعمل كلمة فرعون بمعنى ملك في عصر الأسرات بل كان يستعمل عبارة “الملوك الأقدمون” فقط.
*أما المؤرخ مانيثو أو مانيثون فكان كاهنا مصريا من العهد البطلمي في القرن الثالث ق.م، وكان مؤرخا مهما جدا ولم يستعمل كلمة فرعون أيضا. وهذا المؤرخ يعتبر المصدر الثالث للتأريخ المصري برمته بعد البرديات أولا، واللوحات الحجرية ثانيا. وكان مانيثو يستعمل أسماء الملوك وألقابهم الملكية وهي عدة أنواع وليس منها كلمة فرعون أو عبارة “بر عا”.
*كيف ولدت كلمة فرعون: كانت كلمة بازيليوس اليونانية تعني الملك في العصر البطلمي في مصر. وقبل البطالمة، أي في عصر الأسرات كانت كلمة فرعو أو برعا أو فرعا تعني الملك. وكان الشعب المصري في العهد البطلمي مؤلفا من أجناس مختلفة والأساس هو المصريون بلغتهم المصرية القديمة والإغريق بلغتهم اليونانية. الملوك كانوا أغريق يونانيين ولكنهم كانوا يأخذون بأزياء (الشعر المستعار والتنورة الملكية) وعادات وتقاليد المصريين القدماء. فكان المواطن المصري يسمي الملك اختصارا برعو / القصر الكبير” أما إذا كان المواطن يونانياً فيسميه بازيليوس. ثم أصبح الإغريق يسمون الملوك المصريين السابقين فراعنة وما يزال هذا الاسم موجودا الى الآن. ولكن في الواقع هذا لم يكن اسم الملك المصري قديما.
*نعلم أيضا أن الملك المصري القديم كان له ثلاثة ألقاب ملكية. فحين يتوج الملك المصري يطلق عليه أولا اللقب الحوري. وهو لقب ديني مقدس نسبة إلى الإله حورس الإله الأكبر إله الخير والعدل الذي انتصر على الشر. اللقب الثاني هو اللقب النبتي بنسبة إلى الإلهتين السيدتين (نخبت ووجدت) اللتين تمثلان شمال مصر وجنوبها. أما اللقب الثالث وهو اللقب الرسمي الأكبر ولقب التتويج فهو “نسيو بيتي” وهو اللقب الشائع للملك والذي يجمع بين شمال مصر وجنوبها أيضا.
*أما في الكتابة الرسمية في دواوين الدولة فيشار إلى الملك بألقابه الثلاثة ولكن في التفاصيل، وحين يجري ذكر الملك يقال اختصارا “القصر الحاكم” بلفظ (بر عا) فعل كذا أو كذا. واستمر ذلك حتى عصر الدولة الحديثة في عصر تحتموس الثالث في الأسرة 18 فهو عهده تحولت دلالة عبارة “بر عا / القصر الحاكم” من الدلالة على البيت الحاكم إلى الدلالة على شخص الملك نفسه. وتحولت العبارة “بر عا” إلى برعو” ثم تحولت في اليونانية إلى (برعون) بإضافة نون الأسماء العلمية في اليونانية. وفي العبرية خلطوا بين الباء والفاء فقالوا فرعون (الباء المثلثة أي البابلية قريبة جدا من الفاء وهناك كلمات كثيرة تكتب بالباء البابلية وتلفظ بالفاء. ع. ل).
*المحاوِر د. أشرف عزت: المؤرخ الملقب بأبي التأريخ هيرودوتس من القرن الخامس ق.م زار مصر وكتب عنها والتقى بالمصريين من كل الفئات ولم يكن المصريون يشيرون إلى ملوكهم بكلمة فرعون.
-د. منى حجاج: وهذا صحيح لم يكونوا يشيرون إلى الملك بكلمة فرعون بل كانت هذه العبارة تستعمل للاختصار فقط في الكتابات الرسمية.
*د. أشرف عزت: تاريخ مانيثون المؤرخ المصري كتب في فترة قريبة من إنجاز الترجمة السبعينية للتوراة في العهد البطلمي فلماذا لم نجد أي ذكر في كتاب مانيثون لموسى والفرعون، وقصة بني إسرائيل في مصر هل هناك خلل في الترجمات؟
– د. منى حجاج: أولا تاريخ مانيثون أسبق من ترجمة التوراة، ولكن ليس بزمن طويل. ومع ذلك لا يمكننا أن طلق أحكاما كهذه حول الترجمات ووصفها بالمرتبكة أو أن خطأ متعمدا قد ارتكب. إنما التوراة كتاب ديني الهدف منه الهداية وليس كتاباً في التأريخ. وهذه القصص التي وردت في الترجمة السبعينية للتوراة وردت في القرآن الكريم كقصة سيدنا موسى كما وردت في العهد القديم والعهد الجديد “الإنجيل” فهل يمكن أن نعتمد على القصص الديني كمصادر تأريخية؟ هنا علينا ان نترك كل شيء في مجاله ومساره فليس لدينا أدلة ووثائق على الثلاثة.
وتواصل د. حجاج كلامها فتقول: تجنبا للحساسية التي يثيرها موضوع المقابلة بين التوراة وعلم الآثار التوراتي وأعطي مثالا يوضح رأيي في الموضوع: الشاعر اليوناني الأعظم هوميروس ألف الإلياذة والأوديسة وفيهما تحدث عن حرب طروادة وعن وقوف الآلهة إلى جانب البشر وعن حروب طويلة وزوال دول وقيام أخرى وقد اعتبر كل ذلك أساطير. وكان كتاب الإلياذة كتابا مقدسا لدى الإغريق طوال عدة قرون وظلت قصص طروادة مجرد أساطير لدى الباحثين والمؤرخين إلى أن جاء علم الآثار الألماني هانريش شليمان (1822 – 1890م) وكان مؤمنا بأن الأمر يتعلق بحقائق وليس بأساطير وظل ينقب ويبحث إلى أن عثر على بقايا مدينة طروادة وفيها بقايا الحروب. هنا تحولت الأسطورة في كتاب اعتبر كتابا دينيا إلى حقيقة تأريخية. إلى أن يحدث ذلك بالنسبة لقصة فرعون وموسى أنا مستعدة اعتبرها حدث تأريخي.
أعتقد أن هذا الحل الذي تقدمه د. حجاج للتناقض الظاهر بين الخاطبين الديني المقدس والمدافعين عنه والخطاب الاخر العلمي الآثاري الإناسي هو حل توفيقي كما قلت وهو يؤجل حسم في الموضوع لا يمكن الحسم فيه بالطرق التقليدية السريعة والباترة وربما أثار هذا الحل احتجاج أهل الخطاب الديني لأنهم سيتهمونه بالتهاون مع الملحدين والمشككين بالخطاب المقدس من جهة، واحتجاج أهل الخطاب العلمي الآثاري والإناسي الحديث لأنه حل تلفيقي ورغبوي من وجهة نظرهم، ولكننا يمكن أن نرى خلف هذين الاحتجاجين شيئا من الإيجابية في هذا الحل وما يمكن ان نسميه الموضوعية التاريخية فحادثة تحول طروادة من حقل الأسطورة الدينية إلى الحقيقة التأريخية هي حادثة حقيقية يمكن ان تتكرر ولا يمكن الجزم باستحالة تكرارها خصوصا وأن ما تم الكشف عنه من آثار قديمة في فلسطين ومصر والعراق وعموم بلاد الرافدين هو أقل من ربع الآثار الموجودة فعلا كما يقول الخبراء والمتخصصون. ثم أنه حل يخفف على الباحثين في هذه الحقول من أجواء التشنج والتعادي السياسي والتكفيري ويضفي الكثير من التوازن والرصانة والهدوء على الأبحاث التي يقدمها أهل الخطابين المذكورين.
*فيديو لقاء مع د. منى حجاج:
https://www.youtube.com/watch?v=fE6O8uKe9IE&ab_channel=AshrafEzzat