ج1/مسلسل “الحشاشين”: إسقاط للحالتين الإخوانية والداعشية على الإسماعلية (1 من 2)
علاء اللامي*
خوارق التأليف والإخراج
منذ المشاهد الأولى من الحلقة 1 من مسلسل “الحشاشين” – تأليف وسيناريو عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي وبطولة كريم عبد العزيز- يُصدم المشاهد بالأخطاء الفادحة والتي لا سبيل إلى حجبها بمقولة “تصيد العثرات”، خصوصاً إذا كانت بهذا الحجم المذهل؛ نشاهد كوكبة من 5 فرسان إفرنج “صليبيين” براياتهم وتروسهم الكبيرة المزينة بصلبان ضخمة وهم يقتربون من قلعة آلموت “عش العقاب”، معقل الفرقة الإسماعيلية النزارية، التي سماها المؤلف بالاسم الذي أشاعه الفرنجة لاحقا “الحشاشين”.
تقع قلعة آلموت على ارتفاع 6000 قدم فوق قمة أحد جبال الديلم جنوب بحر قزوين وعلى مسافة 100 كم شمال طهران، في منطقة جبلية قاسية تغطيها الثلوج طيلة 7 أشهر في العام! فكيف تمكن هؤلاء الفرسان الفرنجة من اختراق قلب العالم الإسلامي المعادي لهم والوصول إلى تخومه الشرقية الجبلية، ليعرضوا على زعيم متمرد مسلح في قلعته الحصينة أن يكون ولاؤه لملكهم مقابل دعمه عسكريا، وكيف عادوا بسلام إلى باريس؟
ثمة أيضا أخطاء إخراجية فادحة منها؛ إنَّ الطريق الترابي بين الجبال الذي سارت عليه كوكبة الفرسان لم يعالج فنياً بشكل جيد فبقيت آثار عجلات السيارات من عصرنا واضحة للعيان. وينقلنا مشهد آخر إلى الفرسان عائدين إلى بلادهم، بعد أن استقبلهم حسن الصباح لدقائق ورفض عرض ملكهم، وأراهم قوته بأن أمر أحد مقاتليه برمي نفسه من أعلى القلعة ليتهشم جسده أمامهم! أما عودة الفرسان فلن تكون إلى إحدى الإمارات الصليبية على الساحل الشامي كما يرجح المنطق السليم بل إلى باريس عاصمة المملكة الفرنسية نفسها. ونفهم لاحقا في الحلقة 12 أن هذا المشهد متأخر وجاء بعد انتصار النزارية على الجيش السلجوقي التركي ومزقه شر تمزيق!
وباريس هذه التي ظهرت في المسلسل كقلعة في قمة جبال وعرة، لا علاقة لها بباريس القرن الحادي عشر – عرفها العرب بعد عدة قرون من زوال النزارية باسم بَرْيش كما وردت في كتاب “رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب” للمغربي شهاب الدين الحجري ت 1640م– ولا بباريس المعاصرة التي تقع في منطقة مستنقعات (وكان اسمها الأقدم باللاتينية لوتيس من لوتيم “الطين” أي مدينة الطين) على ضفاف نهر السين لا ترتفع عن سطح البحر أكثر من 35 مترا. فهل هذه هفوات صغيرة يمكن التسامح معها؟
الدراما في خدمة البروباغندا السياسية
إنَّ الإشكالية التي يثيرها المسلسل باتت واضحة فهو يستلهم الحدث التأريخي الحقيقي الخاص بالحركة الإسماعيلية النزارية، وبتركيز أكثر على قائدها حسن الصباح، ولكنه لا يطابق الحيثيات التأريخية بدقة بل ينتقي منها ما يشاء ويرويه بالطريقة التي يشاء خدمة لاستراتيجيته التأليفية الإسقاطية. ليس لأن هذه المصادر نادرة أو متضاربة غالباً، بل لأن كاتب السيناريو أعطى لنفسه مساحة واسعة من التخيل والتلاعب بالحدث التأريخي لتقديم رؤيته الخاصة، وليس لتقديم رؤية نقدية تعالج الحدث التأريخي بأدوات التحليل المنهجي التأريخي العلمي المعروفة لمقاربة الحقيقة.
وإذا كان هذا التدخل أو التلاعب لأهداف فنية وجمالية مشروعا فإنَّ ثمنه يجب أن لا يكون الانتقال التلقائي من ميدان التأريخ إلى ميدان الأيديولوجيا والتوظيف السياسي دفاعا عن أنظمة استبدادية قائمة.
من هنا يدخل العمل الدرامي في باب البروباغندا إعلامية الحكومية الهاجية للمعارضين عموما والإسلاميين “الإخوان المسلمين” منهم خصوصا كما نجد مثالها في أعمال فنية نمطية من قبيل “الإرهاب والكباب” و”الإرهابي” وفي مسلسلات استخباراتية من قبيل “القاهرة كابول” و “هجمة مرتدة” ومسلسلي الاختيار بأجزائه الثلاث حول الأحداث التي تلت الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي واستعرض بطولات القوات الأمنية الحكومية ضد المعارضين من الإخوان المسلمين ومسلسل “كلبش” بأجزائه الثلاث وهما من إخراج مخرج “الحشاشين” بيتر ميمي والأول بطولة كريم عبد العزيز نفسه.
حسن الصباح بين مسلسلين:
إنها المناسبة الثانية خلال سنين قليلة التي يتناول فيها عمل درامي الفرقة النزارية. فقد عُرض مسلسل أردني بعنوان “سمرقند” سنة 2016 وهو مستوحى – كما يقول عنوانه – من رواية بهذا الاسم للكاتب الفرنسي اللبناني أمين معلوف، وهي رواية مغرقة في النزعة الأورومركزية الاستشراقية تعج بالإشارات الطائفية الساذجة من قبيل “فَهِمَ عمر الخيام معنى التلميح، فاسمه هو اسم الخليفة الثاني بعد النبي “عمر” المكروه من الشيعة لأنه كان منافساً عنيداً لعلي مؤسس طائفتهم/ص 82″! ومن الواضح أن رواية معلوف، وقبله رواية جرجي زيدان “صلاح الدين ومكايد الحشاشين” والمسلسلين الأردني والمصري يستلهمان مادتهما التأريخية في الغالب مما رواه ماركو بولو ومجايلوه الفرنجة بدليل تكرار بعض التفاصيل حرفياً مما لم يرد غالباً في السردية التراثية العربية بل ويتصادم معها أحيانا كما سنوثق لاحقا بالرجوع لابن خلكان وابن الأثير وابن كثير والمقريزي…إلخ.
وإذا كان المسلسل الأردني اختار من رواية معلوف ما يناسب اهتماماته الاستعراضية الترفيهية (جوارٍ حِسان ورقص وغناء) بلغة فصيحة خشبية وأداء مسرحي مبالغ فيه – فإن الثاني اعتمد اللهجة المصرية للمرة الأولى في المسلسلات والأفلام التأريخية – إذا استثنينا فيلم “الناصر صلاح الدين” سنة 1963 – والذي كتب بمزيج من اللغة العربية الفصيحة البسيطة واللهجة المصرية أحيانا!
الرواية الثانية هي رواية اليوغوسلافي بارتول “قلعة آلموت” الصادرة في ثلاثينات القرن الماضي، وتأثرت كما يبدو بأقاصيص ماركو أبولو، ولكن ليس كما فعل معلوف وآخرون. فبارتول مثلا لم ينشغل كثيرا بقصة علاقة الطفولة والشباب بين حسن الصباح والوزير السلجوقي نظام المُلك والشاعر عمر الخيام، فمرَّ عليها بشكل عابر بأقل من نصف الصفحة 122. ولكنه ذهب فيها الى استنتاج يتسم بالمبالغة مفاده أن الأصدقاء الثلاثة انتهوا بأن كرسوا أنفسهم للدعوة الإسماعيلية. ويكرر بارتول اللازمة العدمية التي ألصقت بالنزارية من قبل أعدائها ونصها “لا شيء صحيح وكل شيء مباح/ص442″، وقد كررها كاتب مسلسل “الحشاشين” بصيغ مختلفة.
أما الحشيشة فقد جعل بارتولُ حسنَ الصباح يقدم أقراصها بنفسه لمقاتليه ثم يأمرهم وهم “مسطولون” بالانتحار ليلتقوا حبيباتهم بعد الموت فينفذون أمره بلا تردد، ص 461! وجمع عبد الرحيم كمال بين “الحشيشة” وبركة إمام النزارية في مشهد قد لا يخلو من الإسفاف (في الحلقة 8)، حين عثر أحد المقاتلين على نبتتها فهرع لحشِّها وتعريف الصباح ومن معه عليها وامتدح تأثيراتها النفسية والبدنية على متعاطيها. وحين يُسأل المقاتل عن حكم تعاطيها الشرعي يجيب بنكتة: “بعد ما يكون دخانها في صدري أكون برة أي حكم شرعي يا سيدي”!
ثم نشهد واحدة من معجزات حسن الصباح حيث يُشفي طفلاً قروياً من مرضه “ببركة الإمام” وبعد أن سقاه ماءً وضع فيه مسحوقاً ما وتمتم عليه بصوت غير مسموع فيشفى الطفل ويلتحق أبوه وأخوه بالنزارية. وبمرور الوقت يتحول الصباح إلى مُصَنِّع ماهرٍ للحشيشة يتعاطها فتظهر له معلمته، الأنثى الغامضة والشريرة/الحلقة 9!
إن هاتين المعلومتين حول تعاطي الإسماعيلية النزارية للحشيشة أو القائلة بوجود علاقة طفولة وفتوة بين الشخصيات “التأريخية” المذكورة غير موثقة تراثيا كما قلنا، فليس ثمة ما يؤكد العلاقة بين الثلاثة من تراث المعنيين ولم يرد ذكرها في أمهات التراث العربي الأشهر. ورغم ذلك، فقد جعل المؤلف من قصة أصدقاء الطفولة الثلاثة ثيمة مركزية ومحوراً حَدَثيّاً رئيساً رغم أن الفرق بين أعمارهم كبير ويصعِّب تصديقها؛ فالصباح ولِدَ سنة 1037م، وولد الخيام بعده بعشرة أعوام أي في سنة 1048، أما نظام الملك فولد قبل الخيام بثلاثين عاما في 1018، فكيف يكونون زملاء على مقاعد الدراسة في طفولتهم أو فتوتهم وشبابهم؟
ماركو بولو كمصدر أورومركزي
يبدو أن الشاب الإيطالي المغامر ماركو بولو صار أهم مصدر تأريخي غربي وبقوة الأورومركزية لا بقوة علمه فلا علم لديه. أما المستشرق والباحث الروسي المتخصص بالإسماعيليات فلاديمير إيفانوف (1886 – 1970)، الذي لم يذكر هذه الخزعبلات في كتبه، أو الباحث البريطاني برنار لويس (1916 – 2018) والذي وصف النزارية بـ “فرقة ثورية”، فلا أحد من صناع الدراما العربية اهتم بهما، أو في الأقل وازن بين ما كتباه وما ورد في روايات ماركو بولو ومعاصريه.
إن مزاعم ماركو بولو بزيارة القلعة ووصفه لها في نص بعنوان “أسطورة الفردوس”، وكيف كان حسن الصباح يخدر أتباعه بالحشيشة وينقلهم إلى جنات خضر فردوسية تعج بالجواري الحِسان – وهو ما استنسخه مؤلف الحشاشين حرفيا وخدَّر الفدائي سعد الذي سيقتل نظام المُلك ولكن في مشهد تخيلات التحشيش- الحلقة 12- (أما المؤرخ العربي المسلم السُّني ابن خلكان فيتهم السلطان ملكشاه بقتل وزيره نظام الملك “حسداً له واستكثاراً لما بيده من الإقطاعات- كما سنوثق لاحقا)، هي مزاعم أسطورية فعلا أو حكايات مختلقة. فقد كان عمر ماركو سنتين (ولد سنة 1254م) حين أحرق المغول قلعة آلموت وقضوا على النزارية سنة 1256، (ولدينا روايتان: الأولى تقول إن المغول دمروها والثانية تقول إن النزاريين أنفسهم دمروها قبل وصول المغول وخاضوا معركتهم الأخيرة). وهو يزعم أنه زارها سنة 1273 أي بعد ربع قرن على سقوطها وتدميرها، فهل زارها حقا، أم أنه نسج هذه الأسطورة بالسماع من آخرين سبقوه ومنهم القس الفلمنكي وليم ريبروك الذي زار المنطقة بين سنتي 1253 و1255؟ ثم، وبعد سنتين على زيارة ماركو بولو المزعومة قدَّم رسول الملك الإيطالي بارباروسا تقريره عن الفرقة النزارية “الحشاشين” سنة 1175م، وفيه خزعبلات وأفعال لم يمارسها الشرقيون حتى في أشد أطوارهم بدائية ووثنية كحفلات زنا المحارم وشرب الخمور والمخدرات وأكل الخنزير! أم أنه استمد معلوماته مما كتبه رئيس أساقفة صور وليم تيري كما يخبرنا برنار لويس في كتابه عن الاغتيال عند الإسماعيلية النزارية/ ص 161.
وأخيرا، فالواقع الجغرافي والمناخي يدحض كل هذه الترهات والمبالغات فالقلعة تقع في منطقة جبلية قاسية تغطيها الثلوج طيلة 7 أشهر في العام كما أسلفنا، وهذا ما يجعلها جرداء غير صالحة لزراعة تلك الجنان الفردوسية المزعومة.
لماذا باللهجة العامية المصرية
ربما كان الهاجس الإنتاجي وتقريب الإسقاطات السياسية للحالة المصرية المعاصرة هو ما دفع المؤلف إلى اعتماد اللهجة المصرية في الحوار، بدلا من الخيار الأصعب تقنياً والمتمثل في اعتماد اللغة العربية الفصيحة.
ولكن المخرج بيتر ميمي يعلل الأمر بلهجته الخاصة كالتالي: “الأحداث بين أتراك وفرس… فلما يعملوه الأتراك بيتكلموا تركي، ولما يعملوه الأمريكان بيتكلموا إنجليزى … نحن عاملينه في مصر، والترجمة موجودة في كل بلد. هل الڤايكنجز كانوا بيتكلموا انجليزى؟ ولا ويليام والاس كان بيتكلم اللكنة الامريكية/ مواقع تواصل”!
السيد ميمي يضع اللهجة المصرية كمقابل للغة التركية في تركيا، والإنكليزية في بريطانيا، وهذا أمر مثير للجدل، فاللهجات العربية المحلية شيء واللغة العربية الفصحى شيء آخر لأنها لغة جامعة ومشتركة بين الشعوب العربية، والمسلسل موجه لها كلها وليس للمصريين فقط. وإذا كان المخرج يحتج بأن “الڤايكنجز” كانوا يتكلمون بالإنكليزية في الأفلام التجارية وهي ليست لغتهم، فهو يتناسى أعمالاً سينمائية مهمة أخرى احترمت موضوعها إلى درجة العودة إلى إحياء لغة العصر الذي حدثت فيه كما فعل ميل غيبسون في فيلمه الشهير “آلام المسيح” فاعتمد الآرامية شبه المنقرضة لأنها كانت لغة يسوع وعصره. يتبع.
*كاتب عراقي