ميلاد وليد دقة… جملة واضحة تماماً
عندما زارت الصبية سناء سلامة، ابنة مدينة اللد، في العام 1996، الأسرى الفلسطينيين في أحد السجون الإسرائيلية للكتابة عن أحوالهم، والتقت حينذاك لأول مرة بالأسير وليد دقة، المعتقل منذ العام 1986، قالت إنها شعرت بأنها مرّت في هذا المكان من قبل، ولعلها فسّرت ذلك باعتبارها تتحدّر من عائلة مناضلة، قضى بعض أفرادها في السجون، وهمست لنفسها بأن من المحتمل أن يكون والدها قد مرّ في هذا السجن.
قالت سلامة ذلك، في مقابلة إذاعية، فيما تتذكر اللقاءات الأولى التي جمعتها بالأسير الفلسطيني، الذي رحل أمس بعد 38 عاماً قضاها في سجون الاحتلال، رغم انقضاء محكوميته، ورغم مرضه اللئيم المستشري منذ سنوات، ولعلها أرادت أن تفسّر سرّ الانجذاب، والوقوع في غرام الأسير، ابن باقة الغربية في المثلث، في أراضي الـ48.
بعد سنوات قليلة من ذلك اللقاء عُقد قران وليد وسناء، في عرس «مطنطن» في قلب السجن (العام 1999). تحكي سناء كل ذلك وكأنه من اليوميات العادية. تقول، عندما تُسْأل كيف اتخذتْ قراراً بهذه الصعوبة، وإن كانت قد تردّدتْ: «كنتُ جاهزة. شخصية وليد طاغية، هو استثنائي بكل معنى الكلمة».
من هناك بدأت مسيرة العاشقين الاستثنائيين، مسيرة اختلط فيها النضاليُّ بقصة الحب، لكن هنا تتوارى الكلمات الرومانسية، وأشعار الغزل، ويصبح الكلام عن قفص الزواج الذهبي نوعاً من حكايات الجن والعفاريت.
تبدو العائلة الفلسطينية الوليدة أقرب إلى ورشة عمل، فوليد، الكاتب والمبدع والمترجم والسياسي، مشغول بأن يكون، على الأقل، صوت رفاقه الأسرى، يتحدث عن أحوالهم واحتياجاتهم وما يتعرضون له داخل الأسر، يكتب التماسات موجهة للمحاكم، أفضى بعضها بالفعل إلى تَحَرُّر بعض الأسرى.
عندما يفكر بشؤونه الشخصية والعائلية سيفكر باتباع طريقة ابتكرها الأسير عباس السيد (بحسب سناء سلامة)، والتي تقضي بتهريب (تحرير) نطاف إلى الخارج ومحاولة الإنجاب. كان الأسير عمار الزبن أول من «حرر» توأمين ليولدا خارج السجن، وتبعته عشرات المحاولات.
نجح وليد دقة في تهريب نطاف، ثم نجحت زوجته خارج السجن بالإنجاب في المحاولة السادسة. كل تفصيل في سيرة العاشقين الفلسطينيين دقة وسلامة يستحق فيلماً سينمائياً أو عملاً أدبياً، خصوصاً حكاية إنجاب طفلتهما، التي بتنا نعرفها جميعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومن كتابات والدها.
عندما يتأكد الحمل سيكون السجن كله بالانتظار، سيدخل حشدٌ من رفاق الأسر إلى زنزانة وليد دقة، ليبتهلوا معاً بالأدعية والصلوات، تخيل أي مشهد طقسي استثنائي سيكون.
وعندما تولد ميلاد، ستكون الأمة كلها بالانتظار، ستختار سناء الولادة بعيداً عن مشفى إسرائيلي، لتجد نفسها في قلب مشفى محاطة يومياً بمهرجان من المحبين والمنتظرين. وبالإمكان أيضاً تخيل كيف كان المعتقل كله بالانتظار، وأي حال كان عليه الأب الأسير وهو يشاهد خبر ولادة طفلته عبر تلفزيون «فلسطين».
اختار الزوجان لمولودهما اسم ميلاد، ذكراً كان أم أنثى، تقول سناء إنهما أرادا أن يكون الاسم جملة ذا معنى: ميلاد وليد دقة. أطلت البنت في مدينة الناصرة بتاريخ 3 شباط 2020. وها قد باتت اليوم بسنواتها الغضة تهتف لوالدها ورفاقه: «حرية، حرية، لأسرانا حرية».
وليد دقة سيرى البنت فقط بعد عام ونصف من ولادتها، يصمم سلفاً مشهد اللقاء؛ يخبر زوجته بأنه يريد البنت واقفة على قدميها، فيما هو واقف بين أسيرين، أراد منها أن تتعرّف عليه بين الأسرى الثلاثة، وهذا ما كان، سوى أنه هو نفسه لم يتمكّن من الوقوف.
يستمع المرء إلى مقابلة سناء سلامة، زوجة الشهيد الفلسطيني الراحل، والتي تعود إلى العام 2021، ولن يكون بإمكانه تفادي الدمع، كما الإعجاب بواحدة (قل بتفصيل) من قصص النضال الفلسطيني، الذي يشبه الحكاية الفلسطينية برمتها. وفي المقابلة هناك إشارة إلى هذا الجنون الفلسطيني، بل وتحديداً إلى أن أجمل ما في تاريخ الفلسطينيين في مسيرتهم الطويلة المضنية هو تواريخ الجنون.
يغيب الفلسطيني وليد دقة، منضماً إلى قائمة طويلة من الأيقونات الفلسطينية، ومصراً، رغم أنه حفر اسمه بألف طريقة، أن يحضر عبر صغيرته ميلاد، كأنما ليقول، على طريقة الفلسطينيين الأوائل، باقٍ في باقة الغربية.
رفيقة دربه سناء سلامة تعي ذلك، هي التي تركت كل شيء، وأخذت صغيرتها إلى باقة الغربية، الحضن ذاته الذي نشأ وكبر فيه الشهيد الكبير. الورشة إذن مستمرة.