حقائق وأوهام الاشتباك الإيراني الإسرائيلي الأخير
ما زالت ردود الفعل على الاشتباك الأخير بين إيران وإسرائيل متواصلة، فإيرانيو الهوى يعتبرون الرد الإيراني على إسرائيل بأنه أم الفتوحات، والمطبعون وأشباههم يعتبرون ذلك مسرحية إيرانية لحفظ ماء الوجه. وكي لا تضيع الحقائق في زحمة هذين الاتجاهين المتعاكسين، وكي لا تقفز الأوهام إلى مرتبة الشرف وتنزوي الحقائق في خانة النسيان، لا بد من وضع الأمور في نصابها الحقيقي بعيدا عن الهوى.
يقول الإيرانيون إن ما فعلوه كان إنجازا عسكريا فاق التوقعات، فيما احتفلت إسرائيل بإفشال الهجوم على حد زعمهم، وما بين الهجوم الذي تم بمئات المسيرات والصواريخ، تكمن حقيقة تقول، بأن الهجوم الإيراني كان هجوما رمزيا سياسيا وليس عسكريا. صحيح أنه أخذ الشكل العسكري، لكن الغرض الأساسي منه كان سياسيا مُحمّلا برسائل كثيرة، أولها رسالة إلى الخارج تقول بأن إيران قادرة على الوصول إلى أية نقطة في إسرائيل وبأسلحة بسيطة، حيث إنها لم تستخدم الأسلحة ذات السرعات العالية والرؤوس التفجيرية الكبيرة، فالصواريخ استغرقت في مساراتها وقتا طويلا للوصول إلى إسرائيل. ثاني الرسائل أن إيران تجاوزت الخطوط الحمر، كما فعلت إسرائيل بتجاوزها ذلك عندما قامت بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق. الرسالة الثالثة هي لرفع الروح المعنوية لدى أذرعها المسلحة في المنطقة، لاسيما وأن الفترة السابقة تعرضت طهران لانتقادات شديدة لأنها تهدد ولا تُنفّذ بينما إسرائيل تهدد وتُنفّذ، بالتالي كان لزاما أن يتم التنفيذ الإيراني وبالشكل الذي قامت به إسرائيل، حيث تُعتبر القنصلية حسب القانون الدولي أرضا إيرانية.
قرار الرد من عدمه هو قرار إسرائيلي، لكن يجب أن لا يكون هناك تصعيد، وعليه فإن الولايات المتحدة لا تريد تصعيدا ولكن نتنياهو يريد توريطها في حرب مباشرة مع إيران
إذن هناك تجاوز للخطوط الحمر تم في هذه العملية، فالمسيّرات والصواريخ خرجت من أراضي إيرانية ووصلت إلى العمق في إسرائيل، حيث القدس والجولان والنقب وديمونة، وهذه كلها تشكل رمزيات سياسية وعسكرية لإسرائيل، وبذلك كانت الضربة الإيرانية ناجحة من حيث المبادئ السياسية، لكنها لم تكن ضربة ناجحة بالمعنى المتعارف عليه عسكريا، ويبدو واضحا أنها مرسومة بشكل محدد، ونسخة مكررة عن الرد الإيراني على مقتل قاسم سليماني زعيم فيلق القدس في بغداد، عندما أبلغت طهران واشنطن بموعد الضربة ومكانها والوسائل المستخدمة في تنفيذها، والدليل على ذلك استخدام طهران نوعيات من الأسلحة غير متقدمة تكنولوجيا، افتقار الضربة إلى ساعة الصفر، وساعة الصفر مرتبطة تماما بنجاح أية عملية عسكرية، بينما كان العالم كله يتابع حركة الطائرات والصواريخ الإيرانية المتجهة إلى إسرائيل على القنوات الفضائية. كذلك افتقر الهجوم الإيراني إلى عنصر المفاجأة والمباغتة، إذ إن طهران أبلغت واشنطن بموعده وإنه سيكون محدودا ويقع ضمن حق الدفاع عن النفس، حتى إن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان قال إنه أبلغ كل دول الجوار وليس أمريكا وحدها. كما أن المتحدث الرسمي الإسرائيلي حدد الأماكن التي ستستهدفها الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية في إسرائيل. ومع ذلك لا بد من القول إنه لولا الدعم الأمريكي والبريطاني والفرنسي والألماني، لم تستطع إسرائيل أن تصد كل هذه الأسلحة، بل لولا الدعم الأمريكي لإسرائيل لما استطاعت مواجهة عناصر المقاومة الفلسطينية، وقد أظهرت ضعفا كبيرا في المواجهة المباشرة، إذن هل سترد إسرائيل على الرد الإيراني؟
بالنسبة للحليف الأول لإسرائيل وهو الولايات المتحدة، فقد أوضحت تماما أنها تقف مع إسرائيل، كما رأينا في الحدث الأخير خاصة مع تقديم المساعدة الدفاعية. وجون كيربي منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي قال، إن قرار الرد من عدمه هو قرار إسرائيلي، لكن يجب أن لا يكون هناك تصعيد، وعليه فإن الولايات المتحدة لا تريد تصعيدا ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يريد توريط الولايات المتحدة في حرب مباشرة مع إيران. صحيح حتى الآن التصريحات الأمريكية تقول إن بايدن هو من يرفض الانخراط في حرب مع إيران، لكن نتنياهو يريد القفز إلى ساحة أخرى غير الساحة الفلسطينية، فالرد داخل إيران مباشرة، رغم أنها فرصة ذهبية لنتنياهو والدولة العميقة في إسرائيل، لإشعال المنطقة وضمان انخراط أمريكي ألماني بريطاني فرنسي كامل في ساحة الميدان، ولكن قد يكون الهجوم على أصفهان هو أحد البدائل المخفّفة بسبب الضغط الأمريكي على نتنياهو. فالرد، إن كانت إسرائيل وراءه، فهو فعل مساوٍ في المقدار ومعاكس في الاتجاه للرد الإيراني. كما أن فيه رسائل مهمة جدا، أولها أن أصفهان ذات رمزية خاصة بالنسبة لإيران فقد كانت عاصمة تاريخية. كما أنها عُمق استراتيجي وفيها ثقل حضاري واقتصادي وسياسي وعسكري. ثانيا أنه إعلان عن استقلالية القرار الإسرائيلي عن الولايات المتحدة. ثالثا أنه يشير إلى عُمق الخرق الأمني في إيران، لأن الطائرات المسيّرة انطلقت من داخل إيران، حسب إعلان السلطات في طهران. وأخيرا هو دليل على عدم رغبة إسرائيل في التصعيد، لكن هل سترد إيران مرة أخرى على الهجوم الأخير؟ طالما أن إيران قادرة على بلع الضربة ستبلعها لأن هذه الحرب ليست وفق التوقيت الإيراني الحالي، فطهران قاب قوسين أو أدنى من القنبلة النووية التي تحولها إلى قوة نووية تستطيع من خلالها فرض أجندتها على المنطقة والعالم. كما أنها تعتقد أن هجومها الأخير على إسرائيل قد حسّن من صورتها، بعدما تعرضت لهجمات كبيرة من إسرائيل استهدفت قادتها وعلماءها في الداخل والخارج. وهي في النهاية تعتقد أنها رسمت خطوطا حمرا جديدة أمام إسرائيل. فالتصريحات الرسمية الإيرانية تقول، إذا تجرأت إسرائيل على تجاوز الخطوط الحمر في مواجهة إيران، فإن طهران سترد داخل إسرائيل، وبالتالي هذه قواعد جديد للصدام والاشتباك بين الطرفين، وبذلك فإن الحرب قد انتقلت من حروب الظل وحروب الوكالة داخل الساحات العربية، إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة الاشتباك المباشر بين الطرفين، لكن ماذا بشأن الولايات المتحدة الأمريكية؟ فهنالك سؤال يطرح نفسه اليوم هو هل كان من مصلحة الولايات المتحدة أن تقوم إيران بهذا الهجوم على إسرائيل؟ يقينا نعم للأسباب التالية:
أولا تخفيف الضغط على الرئيس الأمريكي بايدن الذي يتعرض لانتقادات بسبب دعمه لنتنياهو في الحرب على غزة. أما الآن فقد أصبح يستطيع أن يستمر في الدعم لإسرائيل وبشكل مريح، حيث إنه سيقول إنها باتت معرضة لهجمات من إيران بشكل مباشر. ثانيا الخلافات بين بايدن ونتنياهو ولّدت رغبة لدى الديمقراطيين بالتخلص من نتنياهو قبل الانتخابات الأمريكية، خوفا من استغلالها من قبل دونالد ترامب انتخابيا. اليوم تقدمت حالة الضرورة في حماية إسرائيل على حالة الخلافات بين بايدن ونتنياهو.
أخيرا قد يبقى البعض مصرا على القول إن إيران انتصرت في تنفيذ الضربة الأخيرة على إسرائيل، حسنا، أين هي المواجهة العسكرية التي حصلت كي نقول انتصر هذا وهُزم ذاك؟