المَخبر السّري للرّواية
وراء كل نص تنام خلفيات متعددة لا يراها القارئ الذي يتعامل مع نص منجز، وقد لا يتخيلها أصلاً. هناك الجهد الفكري والبحثي الذي يبذله الكاتب حتى يجعل من نصه عالماً مقبولاً ومرتكزاً على قاعدة تأملية. وهناك أيضاً مادة تاريخية مبطنة تعطي للنص امتداده في الزمن. وهنا أيضاً بقايا حيوات بشرية ونقاشات تمّت قبل الرواية وخلالها، أي قبل أن تكتمل وتصبح مادة مسوقة يتلقاها القارئ المنتظر. هناك أيضاً هزات جميلة أثناء الكتابة التي كثيراً ما تجعل الرواية تنحرف عن مسارها وتسلك طريقاً لم يكن محسوباً مطلقاً في البداية، وهزات عنيفة تجعل الرواية لا تتأخر فقط عن الإنجاز النهائي، ولكن التخلي عن مشروع كان يشكل بالنسبة للمؤلف رهاناً كتابياً مهماً، فيصبح النص مجرد صدى لجهود كثيرة مخفية لكنها لم تصل إلى بر الأمان، أي إلى الإنجاز. وفي هذا السياق لا ننسى عدد الأشخاص الذين يستأنس الكاتب بآرائهم نظراً لثقته فيهم، مهما كانت محدودة، الذين يتلقون النص بشكل مسبق، قبل حركته في سوق الكتاب، فيبدون الكثير أو القليل من الملاحظات، بعضها شكلي وبعضها الآخر في عمق البنية النصية منطقها، وأحياناً حتى في جانبها الفكر، فيثنون المؤلف عن بعض جنونه لأن الكاتب عندما يكتب يفعل ذلك بقدر كبير من الحرية التي تصل حد الجنون فيقللون من حماسته وتماديه. طبعاً، ليس شرطاً أن يستجيب لملاحظاتهم لأنهم في النهاية لا يشكلون له إلا لحظة استئناس وليست فعلاً إجبارياً، لكن أهميتها أنها تدفع بالكاتب إلى التأمل وتخيل القارئ الذي يتلقى النص في اكتماله.
وعلى الرغم من ذلك، يعني مقاومة الكاتب لـ «تسلط» الآخر على نصه قبل خروجه إلى العلن، مهم جداً أن يقرأ شخص (أشخاص) حيادي الكتاب ويتعامل مع الرواية مثلاً بوصفها نصاً منشوراً فيقوم بتسجيل «مزالقها» من أجل استدراكها قبل النشر الحقيقي، وهو بذلك يمنح النص فرصة أن يُقوَّم قبل أن يصل إلى القارئ على الصورة المثلى، لأن النص المنشور مثل الرصاصة، عندما تغادر البندقية لا تعود ثانية، وتنشأ على ذلك أحكام قد تكون قاسية على الكاتب. ومهما كانت وجهات نظر الكتاب/ القراء في ذلك، أعتبر العملية حظاً إضافياً للنص لكي يخرج على أكمل وجه.
هذا يقتضي حتماً وجود عقل حي ومتنور وعارف بالصّنعة الروائية لكي يستطيع أن يفككك النص قبل توجهه نحو المطبعة، أي ليس قارئاً عادياً. وهو ليس محرراً بالمعنى التقليدي، لأن قراءته هي قراءة وجدانية تجسد اللحظة الأولى التي «يرتطم» فيها نص جديد بقارئ محتمل.
الكثير من الكتاب الكبار والمعروفين عالمياً، وعلى الرغم من شهرتهم يمرون عبر هذا المسلك الذي يرونه أكثر من ضرورة. في حالة الروائي الياباني موراكامي، الحميمية (الزوجية) هي سيدة القراءة المسبقة بالقرابة الروحية والمعرفية، وتلعب دوراً مهماً في «التقييم»، أي أن القراءة تعتمد على كم من أدوات المعرفة والاتكاء على تفاصيل الشخص الخاصة بحكم علاقة القرابة. زوجة موراكامي السيدة يوكو هي قارئته الأولى والأساسية التي لا يعبُر النص الروائي نحو المطبعة إلا من خلالها. فهي كاتبة أيضاً، وإن اشتغلت في حقل غير حقله الثقافي، أي الرواية، ولكنها داخل عالم المسرح. فقد درسا معاً الفنون المسرحية في جامعة واسيدا بطوكيو في سنة 1971، وعملا معاً على شراء بار – جاز في 1974، في المدينة نفسها. وكان هذا رهانهما الحياتي للعيش والعمل باستقلالية تامة بعيداً عن مؤسسات الدولة، والهرب من أي ضغط يمارس ضدهما. في 1978 جرب موراكامي الكتابة ففوجئ بنجاح غير منتظر، بحصوله على جائزة غونزو عن روايته الأولى: «أسمع نشيد الريح» في 1979. هذه الرواية كانت ثمرة لورشة كتابة مشتركة بينه وبين يوكو زوجته؛ هي بصرامتها المسرحية ونظامها التمثيلي الحاد، وهو بمخياله الواسع الذي لا يعيش إلا داخل التجنيح بحرية كاملة. بهذا المعنى، لسنا أمام قارئة عادية، لكن أمام خبرة ثقافية وجمالية شديدة الحضور والعمق، أي أن ملاحظاتها تنبع عن خبرة أدبية وثقافية عميقة.
حظ كبير أن تقرأ له يوكو وتنتقده بحيادية، وأن توجهه من خارج النص، محترمة خياراته، لأنها قارئة احترافية وليست عادية. المشكلة التي تطرح في مثل هذه الحالات، هو أننا سنقف بالضرورة أمام عقليتين فنيتين مختلفتين، في الرؤية وفي جنس الكتابة: الرواية/المسرح. وكثيراً ما تسبب ذلك في «عواصف سجالية» كما يذكر موراكامي، ويتحول «النص» إلى مخبر تأملي وربما إلى «ضحية» أيضاً. تتلخص الصعوبة في عدم إيجاد المساحة الوسطى، قابلية الإيمان بأن ما نبديه من ملاحظات عن نص من النصوص هو وجهة نظر في النهاية يمكن قبولها كما يمكن رفضها. الإصرار على صحتها أو رفضها لا يقود النص إلى تخطي هذه اللحظة «الخيارية». ويحتاج الكاتب أيضاً إلى الإيمان بأن ما يكتبه عرضة لنقص يمكن ترميمه قبل أن يصبح مادة متداولة، وأن ما يقوله الآخر/القارئ الذي لم يعش النص إلا كمعاناة لغوية، منبعه الحب وليس رغبة في التثبيط.
مسألة الثقة بين الشخصين: الكاتب/ القارئ، مهمة جداً، بل وحاسمة. فإذا انطلقت القراءة/القراءات من هذا الخيار، أي انفتاح الكاتب على ملاحظات الآخر، تتاح للعمل المنتَج فرصة التبلور الكامل في «مصنع» الكتابة قبل «الفبركة» النهائية. من المؤكد أن هناك مساحات جوهرية لدى الكاتب من الصعب مناقشة الكاتب فيها، تتعلق عادة برؤية الكاتب للأشياء، زاوية النظر التي يصدر عنها العمل الروائي، أي ما يصنع حرية الكاتب وخياراته الجوهرية. هذه الرؤية ليست وليدة رواية أو نص، ولكنها صيرورة تتعلق بمسالك الكتابة وكيف تشتغل في أعماق الكاتب. الحرية هي جوهر الكتابة متى ما مُسَّ، فهي ليست فقط معمار الكتابة، ولكن الكاتب نفسه، ما عدا ذلك فهو سجال ونقاش وأخذ ورد، لا مشكلة مطلقاً. هناك أخطاء ومزالق لغوية وتقنية في بنية الرواية لا جدال في قبولها بسهولة لأن وجودها يسيء إلى النص، حتى الأيديولوجي(ة) في طغيانها وبروزها المسيء للنص، يمكن السجال فيها ليس كأيديولوجية ولكن كما تتبدى فنياً في النص [نفرق، كتابة، بين الأيديولوجية (بالتاء المربوطة) التي تعني الأفكار المباشرة، وبين الأيديولوجيا (بالألف الممدودة) التي تعني تحويل الأفكار إلى مادة فنية داخل النص، وهو المطلوب]. هذه العناصر وغيرها يمكن السجال فيها وحتى نقدها من حيث الاستراتيجيات الفنية التي تفترضها الرواية، لتصبح أكثر إقناعاً إذا تم الاتفاق على ما هو جوهري، رؤية الكاتب، أو زاوية النظر في رواية من الرواية. أليس هذا هو «مخبر» الرواية الذي يختفي فيه جيش من البشر والأحداث والوقائع والتجارب المادية والروحية، الذي لا تنشأ الرواية الحقيقية إلا داخله؟