الفنّ قاتِل أيضاً
عندما قالت النحاتة الفرنسية كامي كلوديل، وهي في أقاصي اليأس «الفنّ قاتل» لم تكن تنطق عن الهوى. كيف؟ عُرض قبل فترة فيلم طويل عن رودان، النحات الفرنسي الشهير، الذي عرف بتماثيله الضخمة والكثيرة التفاصيل التي تغيب فيها الشاعرية التي اتصفت بها الكثير من المنحوتات العالمية، ربما باستثناء «القبلة» التي تحتوي على قصة سرية معروفة لدى الكثيرين ممن تعاطوا هذا الفن. بيت القصيد في الفيلم هو توقفه طويلاً عند العلاقة بين رودان وعشيقته نحاتة التفاصيل الناعمة، الشاعرة بامتياز: كامي كلوديل. امرأة شكلت معه تياراً خاصاً في فن النحت، بل وتجاوزته، لكن غطرسة أوغست رودان، ويقينه في كل شيء وأنانيته المفرطة، دمرتها وحولتها إلى حطام، ولم تمنحها أي فرصة للظهور والتجلي، فقد كانت ذات موهبة عالية.
أنهت حياتها، على الرغم من احتجاجها، في مصحة عقلية لم تخرج منها حتى الموت. حضور رودان في المجتمع الفرنسي كان كبيراً وكان يملك كل مفاتيح الشهرة والقرار أيضاً. باريس الثقافية كانت تحت هيمنته.
ننسى أحياناً أن مصائر البشرية يصنعها أفراد يظلون في الظل إلى أن يأتي من ينيط اللثام عن المشهد الخفي لنكتشف المأساة الخطيرة المتخفية وراء غلاف الفن. فقد دمرها رودان بغيرته وجنون عظمته وحولها إلى لاشيء، إلى مجنونة يتفاداها الفنانون والإدارات ورجال الأعمال وأسواق الفن. نتحدث بسهولة لفظية أن وراء كل عظيم امرأة، وننسى في اللحظة نفسها، أن نذكر في السياق نفسه، أن وراء الكثير من النساء المنكسرات رجالاً كباراً وربما عظاماً، بمعنى الشهرة، غلبتهم ذكورتهم فأجرموا في حقهن. قد تكسر شهرة الأول الثاني، وتظل النظرة إلى هذا الأخير تمر بالضرورة عبر الأول؛ فهو المرجع الأساسي والمحدد للقيمة. لنا في التاريخ نماذج نسائية كثيرة اشتهرت، ولكنها ظلت تحت سقف الرجل الأكثر شهرة. مثال على ذلك، النحاة رودان والنحاتة الكبيرة كامي كلوديل القادمة من عائلة مثقفة، من أسر الفوكلوز Le Vaucluseالعريقة، إذا كان أبوها شخصية مرموقة، وأخوها شاعراً معروفاً. جمعتها برودان تجربة عاطفية كبيرة انتهت إلى أن تصبح عشيقته الأولى والأساسية في حياته، صاحبت تجربتها العاطفية هزات عنيفة وقاسية انتهت بها إلى مستشفى الأمراض العقلية. فيلم برونو نويتان Bruno Nuytten في 1988 أخرجها من دائرة النسيان، وأظهر تأثيرها الفني على رودان، أستاذها. كثيراً ما كانت يقينيات الذكورة قاتلة في مثل هذه الحالات. عاشت كامي كلوديل طفولة حية وديناميكية، وعاشقة لفنها الذي التصقت به بشكل حيوي: فن النحت. ساعدها والدها على الذهاب بعيداً في خياراتها، على الرغم من أن أمها التقليدية ظلت تمانع وغير راضية على عملها.
ثم التحقت كامي كلوديل بباريس لتطور فنها وتحصل على ورشة للعمل في جزيرة سان لويس. اشتغلت مع مجموعة من النحاتين الذين قووا من تجربتها، بالخصوص ألفريد بوشي الذي كان أستاذها الأول وتعلمت منه الكثير. وعندما استقر هذا الأخير في فيلا ميديسيس بعد فوزه بجائزة روما، أوكل مهمة مساعدتها ورعايتها فنياً لصديقه أوغست رودان Auguste Rodin، لأنه كان يرى فيه شخصية مرجعية في فن النحت. من هنا بدأت العلاقة بينهما، والتي ستتحول من حالة وجدانية مجنونة إلى حالة تراجيدية أكلت في طريقها الدامي موهبة كامي كلوديل. بسرعة يتداخلان في العمل النحتي، لدرجة أن يصبح العمل مشتركاً بينهما ودليلاً على قوة التماهي، حتى إن رودان قال عنها في مرة من المرات: «الآنسة كلوديل أصبحت مرجعي ونموذجي الرائع. أستشيرها في كل شيء، في الصغيرة والكبيرة». لقد أثرت فيه كثيراً وبقوة عالية.
فقد اشتغلا مع بعض في منحوتة «القبلة» «le Baiser» المشهورة عالمياً، التي تعتبر الأكثر شاعرية ودقة وجمالية من بين أعمله، وكذلك المنحوتة الضخمة التي حملت عنوان «باب جهنم» «Porte de l’Enfer» وغيرهما. لقد أصبح رودان وكلوديل كياناً واحداً وعميقاً، لكن وحده رودان كان يظهر في الواجهة؛ فقد أدخلت كامي كلوديل على أجساد منحوتات رودان الثقيلة الكثير من العذوبة الإنسانية والنعومة الأنثوية، فأنسنت كتله الصخرية والرخامية. وقد أكدت لاحقاً منحوتتها: لافالس « la Valse » موهبتها الخارقة وشجاعتها في التعامل مع الرخام أو المواد الصخرية أو التشكيلية. اعتمدت على الحركية ذات الدلالات الحميمية العميقة والتراجيدية أيضاً.
لكن العالم الخارجي، العاجز عن معرفة تفاصيل الجوهر، ظل ينظر إليها باستمرار على أنها تلميذة رودان ومساعدته فقط، وأنه هو السيد دوماً في كل منجز، وليست المرأة الخلاقة التي أثرت في أستاذها. كانت دائماً تحت ظل جناحيه ولم يعمل قط على إظهارها في خصوصيتها وبهاء مشروعها الكبير. لم يعمل على كسر هذه الكذبة الذكورية، بل استلذها كما يفعل الغالبية من الرجال المشهورين الذين يرفضون أن تُمس هذه الشهرة ولو قليلاً المرأة المرافقة المتخفية في السر، ما اضطرها في النهاية إلى مغادرته والبحث عن نفسها خارجه. ولكونها امرأة في ذلك الزمن، فقد ظلت في عزلة كلية، ولم يعترف بها المجتمع الذكوري في تفكيره المحنط والمؤسَّس على سلسلة من اليقينيات، ولم تتلق أي طلب رسمي من الدولة لإنجاز شيء ما يخرجها من الفقر ومن قلقها، ويعيدها إلى نحتها. ويقال إن رودان كان وراء هذا الحجر؛ صمت بشكل لا يقل إجراماً عمن يغتال شخصاً في عز عطائه، وكان بإمكانه مساعدتها، بأن يلفت نحوها الأنظار أو يقاسمها مشاريعه الثقيلة ويحفظ كرامتها. الفن لا جنس له، فقد كانت كامي كلوديل تشتغل على الجسد العاري مثلها مثل الرجال. وانتهت بتجسيد أحد أهم مشاريعها النحتية عبرت فيه عن دواخل امرأة وحيدة وفي حالة احتضار وانهيار عصبي كبير: نيوبيد الجريحة Niobide blessée، موضوعة المنحوتة، بنيت على أسطورة نيوبيد الأم المولودة في طابة، التي تضرب في الصميم، إذ تحت تأثير أم أبولون، يقتل أبناءها وظلت تبكي حتى تحولت إلى صخرة يسيل منها الماء.
في المنحوتة شيء من مأساتها. «نيوبيد كانت أهم منحوتاتها التي عُثِر عليها في متحف بجاية بالجزائر»، في الفترة الاستعمارية، قبل أن تنغلق على نفسها نهائياً. فأدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية بحجة الجنون، مع أن صحافة ذلك الوقت أكدت على جريمة عائلية للتخلص منها، في صمت كلي للمحيط الفني. حتى أخوها الشاعر الكبير الذي ساعدته على السفر والخروج من دائرة البؤس في بلدها، نسي كل شيء ولم ير إلا جنونها. تحرك رودان أخيراً، لكنه للأسف، كما يحدث عادة في مثل هذه القصص التراجيدية، وصل متأخراً ولم يفدها في شيء. لقد قضت نصف حياتها والحرب العالمية الأولى في المصحة العقلية، حتى الموت.
كثيراً ما يكون وراء كل امرأة منكسرة رجل بائس وصغير، مهما كان سلطانه وعظمته. يحتفل الفرنسيون سنوياً بعبقرية رودان ولا يذكرون إلا عرضاً حضور كامي كلوديل في حياته الفنية، مع أن كبار النقاد الفنيين والمتخصصين في فن النحت يجمعون على أن الشاعرية القليلة المتوفرة في بعض أعمال رودان هي من يدي ونعومة ورؤية كامي كلوديل الأنثوية.