الرفيق أحمد العزاوي
ضرغام الدباغ
تعرفت على أحمد العزاوي حين التقينا للمرة الأولى صيف عام ،1961 عندما كنا نقدم أوراقنا إلى
كلية الشرطة، ومن خلال أحاديث جانبية سريعة حول الأوضاع، اعتقدت أنه قومي الهوى، وربما
يصلح أن أفاتحه بالا نضمام للحزب، وبعد عدة لقاءات، وجدت أنه يصلح تماما،ً ففاتحته فعلا،ً فغرق
من الضحك، وقال لي : أتعلم أني أفكر أن أدعوك لل انضمام للحزب منذ أن التقينا وتحادثنا، وهكذا
تكررت لقاءاتنا بضعة مرات أخرى، ولما أعلنت نتائج القبول لم يقبل أحمد في الكلية، في حين
التحقت أنا في الدوام كأحد المقبولين في الدورة .18
أعتقد أني التقيت أحمد مرة أخرى خلال ثورة رمضان، وكان هو يعمل كعضو في القيادة العامة
للحرس القومي برتبة ملازم أول، كنت خلالها تلميذ في الصف المتقدم بكلية الشرطة، بعدها لفتنا
أحداث ما بعد 18 / تشرين الثاني / ،1963 بما فيها من اعتقالات وتخفي وأمضيت معظم عام 1964
في السجن، وحين خرجت في أواخر عام 1964 من السجن، كان أحمد قد دخل السجن لتوه، وهكذا
لم نلتق خلال مرحلة العمل المرهق جداً في إعادة بناء تنظيمات الحزب.
دخل العمل الحزبي مرحلة حاسمة وخطرة بعد تموز / ،1968 وهنا تقرر إنشاء منظمة قيادية بقيادة
الرفيق أحمد. وذات ظهيرة شديدة الحر في نهاية تموز أو آب / ،1968 قرع جرس البيت، وحين
تطلعت فإذا بي أشاهد أحمد يقف بباب البيت. وأدخلته بسرعة وأنا أدرك أن ورائه أمر، فأحمد لا
يعرف العلاقات الخصوصية. وخلال حديثه أخبرني أن تشكلت منظمة قيادية هو مسؤولها، وأنا
ومعي الرفيق المرحوم صباح عرب، والرفيق فؤاد عبد هللا .
ابتدأنا مرحلة عمل جدية تماما،ً والعمل كان يتقدم بدرجة ممتازة رغم المصاعب والمخاطر. حتى
بعد اعتقال أحمد لفترة قصيرة، ثم صدور أمر بإلقاء القبض جديد، على أحمد، إلا أنه يعرف كيف
يختفي بدقة، وتواصلت لقاءتنا ليلاً رغم ذلك، وأحمد مناضل صلب رهن حياته بكافه أبعاده للعمل
النضالي، إلا أنه ولذلك علاقة بإخلاصه اللامتناهي للعمل، ذهلت حين رأيته يحضر تشييع ودفن
الرفيق العزيز سليم عيسى الزيبق، وهو المطلوب بشدة، فاقتربت منه وكنا في مقبرة الشيخ
معروف بالكرخ، وناشدته أن يترك المكان فورا، لأن من المرجح بشدة وجود عناصر أمن واستخبارات
في التشييع بأعتبار أن سليم من قادة الحزب المعروفين، وقد حضر مراسم التشييع قيادات بعثية
كثيرة، والمرحوم الرفيق علي صالح السعدي في مقدمتهم.
تواصل العمل، ولكن مع تفاقم المصاعب والمخاطر، أصبح بقاء الرفيق أحمد في بغداد صعوبة
وخطر شديد، فأجمع الرفاق على ضرورة مغادرته بغداد إلى دمشق، وبالفعل التقينا قبل مغادرته
بيوم، أو ربما بساعات، وكان ذلك ربما في آب أو أيلول، ولكن العمل تواصل مع الرفيق الشهيد
الخالد عبد الودود عبد الجبار، حتى تفاقم الوضع سوءاً والقي القبض على الرفيق ودود، وجرت
الاحداث لاحقا كما هو معروف، فتوصلت الأجهزة لمنظمتنا القيادية، والقي القبض على أفرادها،
وتمكنت من الإفلات في الدقائق الأخيرة المتاحة، وأوصلتني منظمة الموصل إلى سوريا، دمشق.
وهناك التقيت الرفيق أحمد مرة أخرى .. وسيتواصل عملنا لخمس سنوات مقبلة.
بحكم المعايشة الحزبية، خلقت أواصر صداقة شخصية متينة بيني وبين أحمد، ورغم أنه لا يعرف
العلاقات الشخصية إلا نادرا،ً وكل الذين يحبهم كانوا بعثيين، ولكن قلة من بينهم من كانت علاقته
مميزة معهم. ولذلك أعتقد أنني خير من يعرف الرفيق أحمد، ويكتب عنه وهذه أكثر من خاطرة
وأقل من كتابة سيرة، وأحمد شخصية عراقية وطنية قومية تقدمية نادرة تستحق سيرته أن يكتب
عنها الكثير. وأنا أكتب على عجالة لأني أشعر ما تبقى من فسحة الوقت من عمري أصبحت ضيقة
..!
الصفة الأساسية في شخصية أحمد العزاوي، هو إيمانه العميق الغير قابل للا هتزاز بمبادئ الحزب،
إيمان لدرجة أن هذه المبادئ تحولت لمغزى حياته وقيمتها بدرجة لا تقبل الا نفصام، وليس للحياة
أي معنى بدون الحزب وأهدافه. فأحمد كان قومياً صميمياً بدرجة أنه أوصى بإنه إذا توفي اغتيالاً أو
مرضا في أي بقعة أرض عربية فليدفن فيها، ولكنه إذا توفق في أي أرض أجنبية فليعاد إلى بغداد
….! فأحمد كان عراقيا من قلب بغداد. أحمد كان بغداديا بدرجة عميقة، بحيث أنه لم يكن يشرب
الشاي إلا في ” أستكان ” وكان يبتسم ويقول لي وبشرط أن تطقطق المعلقة داخل الاستكان. ولم
يكن يعرف يأكل التمن )الرز( إلا إذا كان تمن عنبر العراقي .
وبمرور السنوات، صار خزان الذكريات المشترك كبير ا،ً وصرنا نفهم بعضنا أكثر، ولكن رغم محبتي
لأحمد وقناعتي به كقائد، إلا أنه صعب، صعب لأن شروط العمل صعبة، لذلك لا أخفي أن خلافات
بيننا نشأت، كان رحمه هللا يعطي الثقة لمن لا يستحقها، وكثيرا ما حذرته من أشخاص، كنت أشك
بنزاهتهم المالية، أو السياسية، من الحزبيين ومن حلفاء الحزب، كما حذرته من أشخاص بقدراتهم
النضالية، كنت أقدر أنهم قصيروا النفس نضالياً وسوف يتساقطون حين يتعرضون للضغط،
وبالمقابل كان يقول لي أن المقاييس عندي زئبقية، ولا أدري كيف أخترع هذا المصطلح، ولكن في
كل مرة كانت الواقع العملي يثبت أم المقياس عندي دقيق، وكان يقول لي من أين لك هذه القدرة
على التنبؤ، فأجيبه من خلال تجارب العمل النضالية والمهنية، ومن تجارب القتال حيث يمكنك أن
تتعرف أي من المقاتلين عندك خائر القوى، يخشى المقابلة،
وأريد هنا أن أقول أن أحمد رغم هفواته كان قائداً من طراز فذ، وأنا أشهد أن هذا الرجل لم يكن في
خياله شيئ مطلقا،ً لا شيئ خاص أو عام، أحمد لم يكن يعرف غير حزب البعث العربي الاشتراكي،
بحيث لم أصادف طيلة حياتي السياسية )اليوم 80 عاماً( شخصاً مثله، ليست لديه أغنية مفضلة،
ولا مطرب أو مطربة، ولا أعتقد أنه يهتم لسماع الموسيقى، دائرة اهتماماته هي الحزب فقط، وألذ
حديث عنده هو خصائص العمل في الفرقة والشعبة، وفلان مناضل ممتاز ولكنه لا يصلح لأكثر من
قيادة فرقة، وعنده الرفيق الشجاع أفضل من الرفيق المثقف.
أحمد كان صلباً وشجاعا،ً وقد عايشت معه بضعة أحداث، تستلزم رباطة الجأش والشجاعة بدرجات
عالية جدا،ً وكان بإخلاصه ونزاهته يمنح انطباعاً بأنه مخلص فيما يقول ولا يميل للمناورة لذلك كان
تاريخه السياسي / النضالي ناصعا،ً وهذه الصفات الشخصية تمنحه شخصية قيادية ممتازة
موثوقة، مهابة لمن يعملون معه، وأنا أجزم أنه لم يكن يفضي بمكنونات دواخله إلا لقلة نادرة جداً
م ن الرفاق.
هل كان أحمد يسارياً ..؟
كان الرفيق أحمد مقتنعاً تمام الاقتناع بمقررات المؤتمر القومي السادس وبتقريره النظري اليساري
الواضح بتوجهاته اليسارية، وكان نشيطاً ومن أعضاء قيادة لجنة تنظيم القطر والتنظيمات
اليسارية. كان معجبا بالتجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية، وبنضال
الشعب الفيثنامي المسلح، وكان يحب مجالسة الفقراء والكادحين، ويرى نفسه واحداً منهم، مع أن
انحداره الطبقي كان من الفئات الكاسبة. أنهى كلية الآداب قسم الفلسفة، ومجموع هذه الفعاليات
كانت تجعل منه ذا قابلية نظرية جيدة ومن بين المميزين من قيادات البعث. وكان يميل لأي توجه
يساري سواء كان نظرياً أو سياسيا،ً وفي علاقات الحزب الخارجية فهو من الكفة التي ترجح التعاون
مع الاتحاد السوفيتي .
الجهة التي اغتالت أحمد، توصلت لقناعة أن أحمد يصعب التعايش معه على تناقضات. ثم مسألة
أخرى، أن تلك الجهة توصلت لمعلومة أن أحمد يقبض بيد حديدية على معطيات عراقية. وهو كان
يعلم أن الموت ا غتيالاً على يد هذه الجهة أو تلك احتمال يلوح كل يوم أمام الناظر، وهذه المجموعة
التي لا تزيد عن عدد أصابع اليدين، قتل معظم من عمل في حلقاتها القيادية، ولم يفلت من هذا
المصير سوى أعداد أقل من أصابع اليدين )ربما أكثر قليلاً(، كان يحاول إبقاء الدار التي كان يسكنها
سرا،ً وإن هذا كان من المستحيل في مدينة كدمشق، وكان حريصاً على أمن حركاته وسفراته،
ولقاءاته داخل سورية وخارجها، كنت أرافقه في بعض تلك السفرات، وأحمد كان يتقن العمل السري،
ويطبقه، ولكنه مع ذلك كان يتوقع اغتياله، بل كان ينتظر ذلك اليوم.
في أواسط الشهر التاسع / 1974 كانت أمكانية بقائي في سورية قد بلغت درجة الصفر، لم يعد
البقاء ممكناً ولا مفيدا،ً وكل يوم أكثر كان ينطوي على مزيد من التناقض، فأحمد سوف يغتال،
وينجو حبار الكبيسي بأعجوبة، ويفلت جواد دوش وعوني القلمجي كذلك، كان قرار عودتي لبغداد،
وأحمد كان في سفرة خارج سوية، وهذا أسهل على الصعيد العاطفي، لذلك كان لقائي الأخير معه
على الورق في رسالة وداعية. لا أدري إن كان قد أطلع رفاق آخرين عليها، تركت دمشق التي أحببتها
كبغداد ولي فيها رفاق أحبة ومناضلين.
في 10 / تموز / 1976 غامت الدنيا في نظري حين علمت أنه قد أستشهد في العملية التفجير
الثانية التي استهدفته في مكتبه، وكان قبلها قد تعرض لتفجير سيارته حين كان يروم دخولها بعد
اجتماع حزبي، والحادثتان سجلتا ضد مجهول ولم تسفر التحقيقات عن شيئ. وهذا يعبر عن دقة
التخطيط. ومنذ الحادثة الأولى يدرك المرء من خلال جرأة الجاني أو الجناة أنهم يعملون بأرتياح، وهذا
يعني درجة التصميم على تصفيته، وكان على أحمد أن يدرك أن قراراً قد اتخذ بتصفيته، ولابد من
تنفيذ هذا القرار. وقال لي صديق أنه بعد المحاولة الأولى التي خرج منها حياً بأعجوبة محطماً
الجسم ولكن سليم الأعضاء الداخلية، وفي المحاولة الثانية كانت أطرافه الخارجية سليمة، ولكن
سحقت أعضاؤه الداخلية.
مما زاد في حزني، حين بلغني قوله لصديق مشترك : لو كان ياسين ” أنا ” موجوداً لما صار بي ما
صار”.. .. وربما كنا قتلنا معاً .. وجود أحمد صار يمثل قلقاً مجهول الأبعاد، وبتقديري أن اغتياله كان
قد صار ضروريا،ً فأحمد بشكل ما كان إشارة وعلامة في طريق العراق المستقبلي، وقاتلوه يعلمون
الدور المهم الذي قد يلعبه أحمد في عراق السبعينات، لذلك أصبحت إزاحته ضرورة نفذت بتخطيط
دقيق. ولكن الغريب هو أنه لم يقتل بيد النظام العراقي الذي خاصمه …..! بل بأيدي لم يكن يتوقعها
.. فمعلوماتي تشير أنه كان يدرك أن شيئاً يخطط له، وهذا كشف بعد محاولة اغتياله الأولى .. ولكن
محنة أحمد كانت محنة قد لا يعرفها إلا المقربون منه …
كانت ثقة أحمد بي، تامة ومطلقة، والحمد هلل حافظت عليها وضحيت من أجلها … هو وربما عدد
قليل جدا من الرفاق يعرفون ذلك.
رحمه هللا كان مناضلاً مقاتلاً من أجل أهدافه ….!