العودة الى مكتبة “لينين” بموسكو من اجل (هاشم جواد)
أ.د. ضياء نافع
كان دستويفسكي جالسا وهو متوتر وقلق وحزين امام مكتبة لينين بموسكو عندما خرجت من محطة المترو المسماة ( مكتبة لينين ), وتوجهت للدخول الى المكتبة من جديد بعد أربعين سنة منذ آخر مرّة كنت فيها , توقفت طبعا كي أتأمل تمثال دستويفسكي , الذي يقف منذ عام 1997 امام المكتبة التي تحمل اسم غريمه الفكري , وفهمت عمق الاحداث التي مرّت بها روسيا, وكيف يجسّد هذا المكان صورة رمزية فريدة لكل هذه التحولات الجذرية التي وضعت هذا التمثال الضخم لمؤلف رواية ( الابالسة ) ( شبه الممنوعة في الاتحاد السوفيتي , والحليم تكفيه الاشارة ! ) امام المكتبة الاولى في روسيا , والتي تحمل اسم لينين , قائد الثورة الاشتراكية ومؤسس دولتها.
دخلت الى بناية المكتبة عبر الاعمدة المرمرية الداكنة , وسألت عن كيفية تنظيم هوية السماح بالدخول , وقلت لهم , باني جلبت معي صورتي لعمل تلك الهوية , فابتسمت الموظفة المسؤولة وقالت لي اجلس امامي واعطني وثيقتك ليس الا , وبعد دقائق منحتني هوية الدخول الالكترونية الى المكتبة وعليها صورتي , التي التقطتها لي باجهزتها, وهي تحت رقم 100000819168 ونافذة الى نهاية عام 2022 وتمنت لي ان أجد في المكتبة الروسية الحكومية ( هذه هي تسميتها الرسمية الآن , ولكن الناس يسمونها لحد اليوم – مكتبة لينين !) كل ما ارغب بالاطلاع عليه من مصادر. . شكرتها جزيل الشكر , وتوجهت الى القاعة رقم 1 والتي كنت اقرأ فيها كل ما اطلبه من كتب ومجلات , وانا أتذكر ايامي الخوالي في القرن الماضي , عندما كنت التقي مع الراحلة أ.د. حياة شرارة في تلك القاعة , بل اني تذكرت حتى كيف دردشنا معا عندما كنّا نشرب القهوة مرة , عن رغبتنا بالاقتراب من مولوتوف ( وزير الخارجية السوفيتية الشهير ) الذي كان يجلس وحده في نفس تلك القاعة وهو يطالع الكتب بهدوء , والتحدّث معه , ولكننا لم نتجاسر طبعا على القيام بذلك, اذ انه كان في تلك الفترة من المغضوب عليهم .
اقتربت من الموظفة المسؤولة واخبرتها باني ارغب بالاطلاع على كتاب باللغة العربية صادر في بغداد عام 1946 كنت قد وجدته هنا قبل اربعين سنة, فقالت لي وهي تبتسم لقد تغيّر الزمن , ويوجد لدى المكتبة الآن فرع خاص بالمصادر الشرقية , وطلبت منيّ ان اسير معها نحو النافذة , وأشارت الى ذلك الفرع عبر الشارع , وهكذا اضطررت ان أذهب الى هناك , وعندما دخلت استقبلني موظف الاستعلامات ورافقني الى حيث الارشيف , وبدأنا نبحث معا عن كتاب بعنوان ( مقدمة في كيان العراق الاجتماعي ) بقلم هاشم جواد , والصادر في بغداد عام 1946 , وسألني الموظف , هل انت متأكد من وجود هذا الكتاب في مكتبتنا ؟ فقلت له نعم , وانني شاهدته بنفسي قبل اربعين سنة , وهكذا وجدناه , طلب مني الموظف ان انتظر في القاعة المخصصة للبلدان العربية , و ذهب لجلب الكتاب .
جلست في القاعة وشاهدت هناك مئات الكتب العربية والانكليزية والفرنسية والفارسية عن مختلف البلدان العربية , و التي ارسلتها لهم تلك البلدان , عدا العراق , اذ لم أجد أي كتاب ارسله العراق لهم , وكم تألّمت لذلك ! عاد الموظف الى القاعة وأخبرني , ان الكتاب الذي طلبته قد تم ارساله الى الحفظ الدائم , وتوجد فقط نسخة من المايكروفيلم له , وان المكتبة ستجهزه لي غدا في الرابعة عصرا في القاعة الخاصة بعرض تلك الافلام النادرة.
وهكذا عدت في اليوم التالي , ووجدت الفلم جاهزا طبعا , ووضعوه في الجهاز الخاص وبدأت بمطالعته .انه صادر ضمن مطبوعات جمعية الرابطة الثقافية , ومطبوع في مطبعة المعارف / بغداد 1946 , وعنوانه ( مقدمة في كيان العراق الاجتماعي ) , ومؤلفه هاشم جواد , هذا المثقف العراقي الكبير , الذي أصبح وزيرا لخارجية الجمهورية العراقية في وزارة عبد الكريم قاسم منذ عام 1959 الى 8 شباط 1963 , والذي انتقل للعمل في منظمة الامم المتحدة في بيروت , حيث تم اغتياله هناك كما هو معروف ( انظر مقالتنا بعنوان – حوار مع هاشم جواد ) .
لقد أخبرت هاشم جواد في ذلك الحوار باني وجدت كتابه هذا في مكتبة لينين , ولكني لم استطع الاطلاع عليه , فقال لي انه يعتز بهذا الكتاب , وانه لا توجد لديه اية نسخة منه , وقد فهمت الآن سبب اعتزاز هاشم جواد بهذا الكتاب المهم فعلا في دراسة الواقع الاجتماعي للعراق , حيث نقرأ في مقدمته ما يأتي ( أضع اليوم بين يدي القارئ هذا الكتيب في موضوع يستوعب البحث فية مجلدات كثيرة , يستغرق وضعها سنين طويلة وجهود عدد كبير من المشتغلين بالشؤون الاجتماعية , ومع اني اقدّر اهمية الموضوع والصعوبات التي تكتنف شتى فروعه و تفصيلاته , ومع قلّة المواد العلمية والاحصائيات المضبوطة اللازمة لخوض غماره. مع هذا كله , فقد أقدمت على وضع مقدمة فيه , لا رغبة في النشر ولا سعيا وراء المكسب , بل حبّا في انارة البحث والنقاش , وخلق الرغبة عند الجيل الجديد من ابناء شعبنا في معالجة أحوال بلادهم بطريقة علمية ..).
يتناول هذا الكتيب كما يسميه مؤلفه مواضيع في غاية الاهمية , اذ يبدأ بنظرة حول ارض العراق قديما وحديثا , ثم يتحدث عن أحوال البلاد الطبيعية , ويتوقف عند سكان العراق ويعطي احصائيات تفصيلية من ولادات ووفيات في المدن العراقية وحسب السنين ويستخلص الاستنتاجات العلمية الدقيقة من هذه الاحصائيات , ثم ينتقل الى اقتصاد الكيان الاجتماعي , حيث يتوقف عند التجارة والنقل والخدمات والاعمال الاقتصادية الاخرى , ويتناول كفاءة العمل الصناعي ونشأة الصناعة الحديثة في العراق , وحتى الصنائع اليدوية عند مختلف الفئات مثل سكان الاهوار وغيرهم .
ويتحدث عن دخل الفلاح ومجاله المعاشي ونظام اللزمة وواقع الفلاح ودور السركال وطرق الحراثة والري وعوامل قلّة الانتاج الزراعي , ويعطي جداول احصائية متنوعة وشاملة جدا حتى بعدد انتاج كيلوغرامات الحنطة والشعير في مدن العراق المختلفة, ويتوقف عند تشريع العمل ومستوى الاجور عند الفلاحين والتباين بينها مقارنة بمستوى اجور الصناعات الاخرى , ويدعو العمال الى تشكيل النقابات للعناية بشؤون العمال ورفع مستواهم الثقافي والصحي والاجتماعي والاخلاقي ومنع تشغيل النساء والمراهقين ليلا وعدم تشغيل الاحداث الذين هم دون الثانية عشرة في الصناعة , ويتناول العوامل المؤثرة في المحافظة على الصحة , ويعطي جداول احصائية تفصيلية وعديدة حول عدد المرضى في المستشفيات الحكومية ونوع الامراض السارية وحسب السنوات , ويتوقف عند الخدمات الصحية في العراق تفصيلا , ويعطي جداول عن مخصصات الدولة العامة للخدمات الصحية , وينتقل الى دراسة التغذية في العراق , ثم يتناول موضوع التعليم وعلاقته بالكيان الاجتماعي واهميته الكبرى , ويعزز كل ذلك بجداول احصائية فريدة , ويتوقف عند علاقة انتشار التعليم بوضع المجتمع الطبقي و ارتباط كل ذلك باسس الكيان الاقتصادي ( وهذه نقطة جوهرية يجب ان لا تغيب عن بال الباحث في القضايا الاجتماعية ) كما يشير المؤلف . . .
ان هذا العرض السريع لمضمون الكتاب يبين بما لا يقبل الشك الاهمية الكبيرة له , ويؤكد ضرورة اطلاع القارئ المعاصر عليه كي يقارن ويتأمل ويستنتج . . وشكرا لمكتبة لينين لانها حفظت للعراقيين هذا الكنز الثقافي الذي لا يقّدر بثمن.