مرافىء في ذاكرة ( يحيى السماوي 13 )
لطيف عبد سالم
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
إذا كان مِن المسلَّم به أَنَّ بمقدورَ المدرسة إكسابِ الأجيال – فِي أيِّ زمانٍ أو مكان – أبجدية التَّرْبِيَة وَالمعرفة وَالمواطنة وَقيم الإبداع، فضلاً عَنْ غيرَها مِنْ حزمةِ السلوكيات القويمة المتمثلة بالاحترامِ وَالالتزام وَالصدق وَروح العمل الجماعي، وَالَّتِي مِنْ شأنِها المُسَاهَمَة فِي إعدادِ شبابٍ واعد نابض بالحياة، وَمتطلع إلى النهوضِ بمختلفِ القِطاعات، بوصفِه القيمة الحقيقية المضافة الَّتِي بوسعِها تعزيز موارد البلاد البَشَريَّة، فِمَا أظننا نبعد عَنْ الحقيقةِ إذا مَا قلنا إنَّ بلدَنا اليوم أشد مِنْ أيّ يومٍ آخر حاجةُ إلى العنايةِ بالمعلم، إضافة إلى عمومِ أروقة مَنْظُومَة التَّرْبِيَة وَالتَّعْلِيم، وَلاسيَّما أَنَّ معطياتَ أيامنا الحاليَّة تلزم قياداتنا الإدارية التَّخْطِيط لغدٍ آمن مستقر فِي ظلِ مَا يواجه البلاد مِنْ تحدياتٍ خطيرة تتطلب مِنْ جملةِ موجباتها البحث عَنْ سُّبُلِ المواجهة لصِنَاعَةِ المُسْتَقْبَل. وَلَعلَّنَا كذلك لا نغالي إذا قلنا إنَّ شريحةَ المعلمين – وَلاسيَّمافِي أيامِ النظام السابق وسنوات الاستعمار البريطاني – كانت مِنْ أكثرِ الشرائح الاجْتِماعِيَّة فِي بلدِنا تأثراً برحلةِ الألم والشقاء فِي فضاءاتِ معلولةٍ الآفاق لدنيا معجونة بِما لا يغتفر مِنْ عبثِ السِّياسَة الساعية إلى محاولةِ جعل أفضل خلق الباري عز وَجل يصارع قدره مَعَ السُّلطة أو الخضوع لأجنداتِ خارطتها السِّياسِيَّة بالاستنادِ إلى مَا يشار إليه باسْمِّ سِياسَة فرض الأمر الواقع. ولعلّ مِن المناسبِ اليوم – وَنَحنُ فِي صددِ الحديث عَنْ رحلةِ أديبٍ نقش بشعرِه صورة الوطن عَلَى وجعِ جرحه وهو يقضى أغلب سنوات شبابِه فِي النضالِ مِنْ أجلِ حُرِّيَّة شعبه، فضلاً عَنْ جهدِه فِي القِطاعِ التَرْبَوِيّ – أنْ نشير إلى ما أتيح لنا مِنْ بعضِ الحوادث الكثيرة الَّتِي عاشها المعلم، حيث يروي الشاعر العماري عبد الآله منشد الخليفة أنَّ معلماً فِي واحدةٍ مِنْ مدارسِ مدينة العمارة، طرق باب منزل عمه يوم التاسع والعشرين مِنْ شهرِ رمضان فِي أحد أعوام الحصار – أيام النظام السابق – طالباً مِنْ صاحبِ الدار تسليمه مبلغ ” زكاة الفطر “، وَالَّتِي تسلم عادة للفقراءِ مع صلاة عيد الفطر أو قبلها، كونِه يستحقها؛ لأنَّ راتبه الشهري حينئذ لا يزيد عَنْ ( 2750 ) دينار، فانبرى لَه الشاعر الخليفىة الَّذِي شهد الواقعة بهذه الأبوذية:
اخذ مني حديثي هـــــذا فطرة , الصراحة البكلامي اجت فطرة
يدكَ بابي الفقير يريـــــد فطرة , وآنه الفطرة تعز صارت عليَّ
مِنْ بَيْنَ حكايات َالتَّعْلِيم فِي العهدِ الملكي، وَالَّتِي ضاع الكثير مِنْها فِي زحمةِ الليالي أنَّ مديرَ احد المدارس – المبنية مِنْ القصب – فِي منطقةِ الحشرية التابعة لناحيةِ العدل بمحافظةِ ميسان، فوجئ ذات صباح بفقدان أحد صفوف مدرسته، فَلَمْ يتبادر إلى ذهنِه سوى الإسراع بتحريرِ كتابٍ رسميّ تحت عنوان ” طيران صريفة “ وَإرساله إلى مديريةِ تَّرْبِيَة العمارة؛ لأجلِ ضمان النأي بنفسه عَن المسائلة، بَيْدَ أنَّ المديريةَ المذكورة آنفاً أجابته بكتابٍ رسمي طريف مفاده: ” صريفتكم لَمْ تمر بأجوائنا “. وَلَعَلَّنا لا نبعد عَنْ الواقعِ أو نبالغ إذا قُلْنَا إنَّ المعلمينَ كانوا فِي طليعةِ الموظفين والعمال الَّذين كان يجري نفيهم مِنْ مراكزِ المدن وَضواحيها إلى الأريافِ والمناطق النائية بسببِ نشاطهم السِّياسِيّ وَمواقفهم الوَطَنيّة المناهضة للسُّلطة، وَضمن هَذَا الإطار يروى أَنَّ معلماً جرى نفيه إلى إحدى المدارس الإبتدائية فِي ناحيةِ ( العدل ) بمحافظةِ ميسان أيضاً، ثم ما لبث أنْ جُددَ نقله بسببِ استمرار نشاطه السِّياسِيّ إلى مدرسةٍ أخرى أبعد كثيراً مِنْ مركزِ المدينة عَنْ سابقتِها، كونها تقع فِي منطقةٍ بعيدة يشار إليها باسْمِ ( الأعيوج )،إلا أَنَّ المذهلَ فِي الأمرِ هو ردة فعل صاحبنا الَّذِي لِمْ يجد أفضل مِنْ الركونِ إلى الشعرِ للتعبيرِعَنْ مظلوميته وَاستهجانِه أمر النقل؛ إذ اهتدى إلى خيارِ نظمِ قصيدة شعرية قصد إرسالها إلى مديرِ التَّرْبِيَة، وَالَّتِي مطلعها:
إذا بالعدلِ انا ما استقمنا , فكيف بالأعيوج نستقيـم
فِي إحدى قرى الناصرية النائية، ألزمت قساوة الظروف الَّتِي كان يعيشها معلم – منفي – انتحاله صفة أحد الشيوخ البارزين فِي المنطقةِ الَّتِي يمارس فِيها عمله معلماً مِنْ أجلِ تيسير محاولة نقل نفسه وظيفياً إلى إحدى المدارس الإبتدائية العاملة فِي مركزِ الناحية، حيث استفاد مِنْ ضخامةِ بنيته وَوسامته وَجرأته عَلَى المغامرة، وَعمد إلى استعارةِ زي عربي مِنْ أحدِ الوجهاء دُون إشعاره حقيقة غَرضه، وَممَا ساعده فِي اتمامِ مهمته هو سماع مدير التَّرْبِيَة باسْمِالشيخ مِنْ دُونِ اللقاء بِه أو حتى رؤيته فِي وقتٍ سابق؛ لذا حظي الشيخ – المعلم المنفي – باستقبالٍ مهيب مِنْ لدنِ مدير التَّرْبِيَة، فضلاً عَنْ موافقته عَلَى توسطِ الشيخ – المفترض – بنقلِ المعلم إلى واحدةٍ مِنْ مدارسِ مركز الناحية، وَحين كان المدير يتجاذب أطراف الحديث مَعَ ضيفِه المبجل وَقد أدهشته فصاحته، دخل الموظف المختص وَناول مديره الكتاب الخاص بأمرِ نقل المعلم لغرضِ توقيعه، بَيْدَ أنَّ سوءَ الحظ كان بالمرصادِ لهَذَا المعلم السياسي، حيث صادف أنْ دخلَ مدير أحد المدارس العاملة فِي المنطقةِ ذاتها مكتب مدير التَّرْبِيَة قصد التداول معه بأمرٍ يخص مَدْرَسته وَبعد قيامه بأداءِ التحية، فوجئ بوجودِ المعلم المشار إليه آنفاً بهيئةٍ غير معتادة، فالتفت إليه مخاطباً إياه – مِنْ دُونِ أنْ يعلمَ حقيقةِ أمره – بصفته زميلاً وليس شيخاً قائلاً: كيف الحال أستاذ … أراك اليوم تاركاً الدوام فِي المَدْرَسةِ ومنتشي بالزي العربي، وَأمام صدمة مدير التَّرْبِيَة عاد صاحبنا إلى مَدْرَستِه مهموماً وقد سبق وصوله المَدْرَسة كتاب يوبخه.
مِنْ المعلومِ أنَّ دورَ المعلم قد تأثر بطبيعةِ التحولات البنيوية الَّتِي شهدها مُجْتَمَعنا عَلَى مدى العقود الماضية، حيث كان قديماً ينظرُ إلى المعلمِ بوصفِه مصدر المعرفة الأساس الَّذِي بوسعه توصيل المعلومات لتلاميذه، ما أفضى إلى إلزامِه بأنْ يتسلحَ بما تقتضي هَذه المهمة مِنْ موجباتٍ تتعلق بقدراته ومعلوماته فِي المجالاتِ العِلْميَّة وَالأدبية وَالتَّاريخِيَّة؛ إذ أنَّ الأخلالَ بتلك المتطلبات مِنْ شأنِه المُسَاهَمَة فِي تدهورِ مخرجات عَمَليَّةِ التَّعْلِيم وَ التّعلّم، وَعدم توافقها مَعَ دورِ المَدْرَسة الَّذِي كان ينحى بشكلٍ رئيس صوب تحقيق الكفاية التَّعْلِيميَّة وَالمعرفية وَنقل التراث للأجيالِ الجديدة. وَلَعَلَّنَا لا نبعد عَنْ الصَوَابِ إذا قُلْنَا إنَّ الرعيل الأول مِن المعلمين فِي بلادِنا كان عَلَى درايةٍ وَمعرفة كبيرتين بمختلفِ أساليب التَّعْلِيم الضامنة لإرساءِ موجبات الضبط والنظام فِي الصفِ الدراسي، وَالَّتِي بمقدورِها تعزيز عملية الجهد والمثابرة والانتباه، عَلَى الرغمِ مِنْ أنَّ تحصيلَهم الدراسي لَمْ يكن يتعدى فِي بعضِ تلك المراحل التَّاريخِيَّة الصف السادس الإبتدائي، مَا يعني جودة مستوى التَّعْلِيم حينئذ وَسمو شخصية المعلم إلى درجةِ التأثير فِي سلوكياتِ تلامذته وَإثارة مَا بوسعِه المُسَاهَمَة فِي تطويرِ شخصياتهم بما يؤدي إلى جعلِهم قادرين عَلَى التوافقِ الاجْتِمَاعِيّ؛ إذ لِمْ يكن ضعف الإمكانيات التقنية وَالمادية يومذاك عامل إعاقة لإدارتي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ بالمقارنةِ مَعَ ما نشهده محلياً مِنْ تراجعٍ كبير بمخرجاتِهما فِي عالمِ اليوم، وَالَّذِي أهم مَا يميزه هو التطور المتنامي عَلَى صعدِ الحياة كافة بفضلِ مَا توصل إليه العلم مِنْ ابتكاراتٍ وَأساليب كرست جميعها لخدمةِ الإنْسَان وَاحترام إنسانيَّته، وَلَعَلَّنا لا نبعد عَنْ الواقعِ أو نبالغ إذا قُلْنَا إنَّ ال الْمُجْتَمَعات المتحضرة جهدت فِي توظيفِ التَقدم التِقْنِيّ المتسارع بمهمةِ تَطْوِير قِطاع التَّعْلِيم؛ إذ تمكنت إداراتها مِنْ تكييفِ طرائق التَّعْلِيم وَتطويعها بِمَا يفضي إلى اعدادِ النشء الجديد بالاستنادِ لمناهجٍ وأساليبٍ عصرية تجعله مؤهلاً لأنْ يكون جيلاً ناجحاً فِي إفادةِ نفسه وَشعبه وَوطنه. وَليس خافياً أنَّ شخصيةَ المعلم وَمَا يتمتع بِه صفاتٍ تجعله أكثر قدرة عَلَى احداثِ تغيرات في سلوكياتِ تلامذته وتزيد مِنْ إثارةِ محركات الوعي بأهميةِ دورهم فِي بناء البلاد وقيادة مفاصلها الإدارية وَالفنية، غَيْرَ أَنَّ كُلّ مَا تقدم ذكره تتلاشى آثاره أمام أول ” كَوامة عشائرية ” يتعرض لها المعلم فِي واحدةٍ مِنْ مدارسِ العراق، فضلاً عَنْ التأثيرِ الكبير الَّذِي تحدثه تلك الفعالية وَغيرها عَلَى تكامل نُمُوّ التلاميذ.
أَمْرٌ شَدِيدُ الأَهَمِّيَّةِ أنَّ السَماويَّ يحيى أحب دراسته فِي المرحلةِ المتوسطة وَشغف بِهَا لأسبابٍ لا علاقة لها بتحقيقِ حلم وَالديه فِي الدخولِ إلى دارِ المعلمين، إنما لأنَّ المدرسةَ المتوسطة تحوي مكتبة كان يراها كبيرة وقتذاك، بالإضافةِ إلى أنَّ الطريقَ إليها مِنْ بيتِه يقتضي عبور الجسر الحديدي وَالسير بمحاذاةِ النهر، وَهو الطريق ذاته الَّذِي تسلكه الطالبات الجميلات فِي ذهابهن إلى متوسطةِ السَماوة للبنات وإيابهن منها؛ إذ أنَّ موقعَ متوسطة السَماوة للبنين كان فِي الصوبِ الصغير، فِيما تقع متوسطة السَماوة للبناتِ فِي الصوبِ الكبير، وَالقاسم المشترك بينهما هو الجسر وَالشارع.
لا تسـأليني مَنْ أنا , فإنني أجهلُ مَنْ أكونْ , كلّ الذي أعرفه عني , أنا مدينة الحكمةِ
لكنَّ الذي يدخلها , لابدّ أنْ يُصاب بالجنونْ
لَيسَ بالأمرِ المفاجئ أنْ تكون حكايات الوالد – رحمه الله – فِي أيامِ طفولة يحيى السَماويّ المصدر الأساس لبداياتِ تفتح ينابيع موهبته الشعريّة، حيث أَنَّ مألوفيةَ الأماسيَ العائلية فِي لَياليِّ الشتاء الَّتِي شهدها بيتِهم الطيني القريب مِنْ نهرِ الفرات، كانت تشكل طقساً رتيباً طافحاً بالحكايا الَّتِي كثر مَا تخللها الشعر، وَالَّذِي كان السَماويّ يحيى يفهم قليله ويجهل كثيره حينئذ،بَيْدَ أنَّه سرعان مَا وجد نفسه بعد ذلك وكأنه يشرع فِي الخوضِ بغمارِ تجربته الأدبية حين بدأ يقرأ مَا استطاع مِنْ ديوانِ المتنبي وَالمعلقات، فضلاً عَنْ بضعةِ كتبٍ أخرى – مِنْ بَيْنَها كتاب نهج البلاغة – لا يتعدى عديدها أصابع يده، وَأَدْهَى مِنْ ذلك شغفه بتقليدِ ما يقرأ مِنْ أبياتٍ ساذجة، وَالَّتِي كان الده – طيب الله ثراه – يبالغ فِي مدحِها، حتى حدث الإنقلاب الكبير فِي حياتِه عندما طلب مدرس اللغة العربية الأستاذ شمخي جبر من طلابِه – فِي الصفِ الثاني متوسط – كتابة موضوع فِي درسِ الإنشاء والتعبير عَنْ بيتِ النابغة الذبياني :
لا مرحبــــــا بغدٍ ولا أهلاً به , إنْ كان تفريقُ الأحبة في غدِ
الْمُلْفِتُ أَنَّ السَماويَ يحيى، ألزمه الواجب البيتي المذكور آنفاً قضاء الليل مَعَ أكثرِ مِنْ ورقةٍ بيضاء محاولاً نسج بضعة أبيات عَلَى نسقِ بيت النابغة الذبياني، حتى إذا غفت آخر نجمة وبدأت الشمس تفرك أجفانها، كان قد كتب ثمانية أو تسعة أبيات، وَالَّتِي فرضت عَلَى مدرسِه التصفيق له حين قرأها فِي الصف، بالإضافةِ إلى منحِه درجة كاملة، وَالمذهلُ فِي الأمرِ أَنَّ مدرسهُ لَمْ يكتفِ بذلك، حيث طلب منه قراءتها خلال الإستراحة فِي غرفةِ المدرسين، وَمِنْ ثم أهدائه فِي اليومِ التالي كتاب النظرات للمنفلوطي وَديوان معروف الرصافي. وَالمثيرُ للاهتمامِ أَنَّ السَماويَّ فوجئ بعد مضيّ بضعة أيام بتصدرِ أبياته – عَلَى الرغمِ مِنْ سذاجتِها – النشرة الجدارية الَّتِي يشرفُ عَلَى تحريرِها طلاب الصف الخامس الثانوي الَّذين كانوا عَلَى أعتابِ مرحلة الدراسة الجامعية.
يا سادتي الولاةُ في مدائنِ الأحزانْ , جميعكم أحصنةٌ , لا تملك الأمرَ على لجامها
فكيف للشعوبِ أن تقيمَ مهرجانها , حين يقودُ ركبَها حصانْ
يركبه المحتلُّ والآفكُ , والمنبوذُ والجبانْ ؟
أخمرةٌ صوفيةٌ , عَـتَّقها في ثغركِ العشقُ , يرى شاربُها الفردوسَ في دنياهْ ؟
أسكرني حين رشفتُ القبلةَ الأولى , فجُنَّتْ شفتي , وأدمنتْ أوردتي طِلاهْ
فكيف لا يسكرُ هذا الثغرُ , من شذاهْ ؟
لا يخفى عَلَى كُلَّ متلقيٍّ إنْ كان ناقداً أو شاعراً أو فارساً فِي أحدِ ضروب الأدب الأخرى أَنَّ الجهودَ الكبيرة الَّتِي كان السَماوي يبذلها فِي بداية رحلته الأدبية، تعكس بما لا يقبل الشك قوة إرادته الَّتِي أثمرت عَنْ ولادةِ تجربة شعرية متميزة بأدواتِها، وَمعبرة فِي الوقت ذاته عَنْ صورةٍ ناصعة للإبداعِ العراقي المتجدد الَّذي تمتد جذوره فِي أعمَاقِ مَا قبل التاريخ ممثلة بعراقةِ حضارة مَا بَيْنَ النهرين، دجلة والفرات. وَفِي هَذَا السياق يؤكد الباحث وَالشاعر العراقي غزوان علي ناصر عَلَى أهميةِ التجربة الشعرية للشاعرِ الكبير يحيى السَماوي، بوصفِها تجربة مهمة تثير الدهشة والإعجاب لدى المتلقي وَتستحق أنْ يقفَ عندها النقاد وَدارسوا الأدب؛ إذ لا شكَ أَنَّ هَذه التجربة الشعرية الثرة تقف خلفها ثقافة واسعة وَرصينة، عمقتها قسوة المعاناة وَمرارة الغربة وَالحرمان وَالعواطف الجياشة وَمشاعره المرهفة وَاشياء أخرى كثيرة قد يطول الكلام فِي شرحِها، وَلكن عَلَى سبيلِ الإختصار يمكن القول إنَّ القارئَ لشعرِ يحيى السَماوي يدرك مِنْ أولِ وهلةٍ أَّنَّها تجربة إبداعية متميزة عَنْ غيرِها مِن التجاربِ الشعرية لِمَا تمتاز بِه عَلَى المستوياتِ كافة بِقيمتِها الفنية العالية وَمضامينها الرائقة وَصورها الجميلة الخصبة وَرهافة موسيقاها وَلغتها الوارفة وَفورانها العاطفي وَاتساع رؤيتها.