حكاية من أرشيف الماضي المؤلم و المخيف ( من تجربة الجبل 2 )
محمد حسن السعدي
في ربيع عام ١٩٨٥ , لاشيء يعكر هدوء سلسلة جبال سورين إلا بعض الأخبار المتفرقه والمتناقله عبر الماره والمهربين وأهالي القرى المحيطة بمقرنا في وادي ( هزارستون ) , أن هناك تحشدات عسكرية وأمنية في قصبة ( سيد صادق ) وهذه تقليدية ومألوفة لنا ، تحدث بين الحين والآخر لأننا وسط جبهة حرب مشتعله , تعودنا في مقرنا تمر من فوقه قذائف المدفعية باتجاه أعلى راقمين أيرانيين وأحيانا تخطأ الهدف وتسقط قريبة من مقرنا .
في صباح ربيعي مشمس يزداد القصف باتجاه تمشيط المنطقة مع تقدم القوات العراقية الخاصة معززة بجحوش أدلاء . . ففي الصباحات الأولى من ذلك اليوم الربيعي أخترقت القوات العراقية الاراضي الإيرانية وألتفت حول الراقمين بعد أن تجاوزت مقرنا من الخلف . . رأينا بأم عيوننا ، ونحن العشرة رفاق التابعين الى التنظيم المدني طريقة رمي الجنود الإيرانيين من أعلى الرواقم الى جوف الوادي مع أصوات الاستغاثة , في حرب تلك الأجواء وصعوبته تمكنا من الانسحاب مع بشمركة الحزب الاشتراكي ( حسك ) الى مناطق ( باني شهر ) حيث لنا موقع ورفاق هناك .
في الليل دخلت القوات العراقية مقرنا ، وتركت بعض القتلى به من الطرفين , في ساعة وصولنا الى مقر رفاقنا ، أستلمنا برقية من قيادة القاطع أن أنسحابنا يعد هزيمه عسكرية وسياسية أمام أهالي القرى وصخمت وجه الحزب فحتى يعود وجه الحزب أبيض لابد من سحب معدات الحزب عبارة عن تسعة صواريخ ( بازوكا ) فاسدة , في اليوم الثاني أجتمعنا وقررنا العودة ليلأ وسحب ممتلكات الحزب , ومن مجموع عشرة رفاق أربع فقط قرروا ان يموتوا , أنا و أبو حاتم و أبراهيم و الشهيد أشتي , وسط جبهة حرب مشتعلة والليل نهارآ بفعل قذائف التنوير , بعد عملية شاقة وصعبة وخطرة وصلنا الى المقر ووجدنا القتلى ملفوفين ببطانيات نومنا ، وسحبنا الصواريخ الفاسدة وبهذه العملية رجعنا وجه الحزب أبيضآ ناصعآ .
واصل النظام بعد أحتياح منطقة ( هزارستون ) بالكامل بخطته في السيطرة على كل مرتفعات ووديان وتلال جبال سورين تحسبآ لتطورات الحرب والتحشيدات الإيرانية , كنت ضمن قوات الفوج الخامس عشر في وادي معقد وهدف صعب للعدو ( خورنوزان ) , وبالتعاون مع قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني ( نوجة خانقين ) , نشترك بكمائن متقدمة باتجاه تقدم العدو على مقراتنا , بشمركة الديمقراطي مهمتهم في ربيه عسكرية قديمه تركها الجيش العراقي لاحتدام المعارك في جنوب العراق وهي الأقرب لتقدم الجيش العراقي باتجاهنا ومطلة على سفح الجبل .
في ليلة هادئه ومقمره كنا أربعة رفاق في كمين متقدم , أنا و أبو زاهر و الشهيد عمار والشهيد قاسم , في تلك الليلة تخلوا بشمركة الديمقراطي عن راقمهم مما أثار بيننا التساؤل والحيرة في ذلك الوضع العصيب وبعدم التنسيق مع مسؤولي مقرنا وأخبارهم بالتخلي عن الالتزامات المتفق عليها , كان كميننا في مرتفع جبلي يطل على الطريق العام بين مدينة حلبجه وسليمانية مجرد من أي تحصينات عسكرية أما ربية البشمركة الديمقراطي موقع عسكري محصن بالسواتر الترابية والصخر ، الى الأن لم تكشف الأسباب الحقيقية وراء دوافعهم بالتخلي عن واجبهم في تلك الليلة التي حدث بها التقدم ؟.
بقينا في تلك الليله القمرية بنجومها المتلألئة لوقت متأخر وعبر راديو صغير نسمع صوت فيروز يا جبل البعيد خلفك حبايبنا من صوت الكويت , في الساعة الواحدة ليلآ بدأنا بالتناوب على الحراسة مع أبو زاهر وبعد ساعة من نوم متقطع وحذر أستلمت الحراسة ومباشرة أخترقت طبلة أذاني أصوات تقدم وحديث مع نسمات الهوى ، وعندما تقدمت قليلآ رأيت قوات الجيش العراقي مطوقتنا من عدة محاور وربية الديمقراطي بالكامل تحت سيطرة الجيش العراقي وتبين فيما بعد أن التقدم بأتجاهنا قد بدأ في الساعة السابعة مساءآ من قرية ( شيلمر ) , وعندما بلغت مسؤول المفرزةً أبو زاهر ، قرر حالآ الانسحاب باتجاه رفاقنا بالوادي والى الأن لم أستوعب . . لماذا تَرَكُوا لنا مجالا للانسحاب وكنا تحت سيطرة بنادقهم ؟.
أعقبه أنسحاب عسكري كامل من مناطق باني شهر وخورنوزان باتجاه الاراضي الإيرانية ، بعد متاعب وتهديدات وخطورة وصلنا الى مناطق كرجال مقر قيادة القاطع ، وعقد إجتماع لتقيم الوضع بقيادة المرحوم أحمد باني الخيلاني ووجهوا لنا عقوبات نحن جماعة الكمين المتقدم ، لكنها لم تأخذ بها لان الوقت لم يسعفنا فاجتيحت المنطقة بالكامل فانتقلنا كقاطع وأفواج وسرايا وفصائل وتنظيم الى مناطق ( شرباجير ) , لو أعيد لي الزمن فان قرار أبو زاهر كان صائبا جدآ بالانسحاب رغم أنه حاول التنصل عنه وتحميلي أنا شخصيا المسؤولية . . لو أطلقنا رصاصة واحدة باتجاه العدو لتم القضاء على سبعين رفيقاً ما زالوا يغطون بنوم عميق .
في صيف عام ١٩٨٣ نجوت بأعجوبة من الإعتقال أثر مداهمة مفرزة من المخابرات لبيتنا في قرية الهويدر ، كنت في هذيك المرحلة حذّر جدآ ، الموت ولا الوقوع بين أيديهم ، في ليلة سبقت المداهمة مألوف لنا نسهر ليليآ في مقاهي الهويدر الجميلة أستطرق الصديق محمد شيبه ( ابو مروان ) ومرر كلامآ على مسامعي ( أن أكون منتبهآ أيامك قربت ) مما أعطاني أشارة قوية بالأنتباه , على خلفية الاعترافات التي أدلى بها أنور المزوري الناشط في التنظيمات المدنية للاتحاد الوطني الكردستاني في قضاء ( كلر ) , تعرفت على أنور قبل شهرين من محاولة أعتقالي في سهل شهرزور في مهمة وصول الشهيد طالب عبود جميل الى الاراضي التي يسيطر عليها أنصار حزب الشيوعيين العراقيين مع القوى المعارضة الاخرى .
تمكنت من الافلات من قبضتهم بمساعدة أبن العم مهدي حميد ( أبو زينه ) , بعد أن نقلني بسيارته مع أقفاص الرمان الهويدراوي الى مدينة السعدية بملابسي القروية ومن هناك أخذت تاكسي الى مدينة كفري بيت المرحوم شيخ عطا الطالباني مدير بلدية كفري , بعد يومين أنتقلنا مع العائلة بسيارته الى مدينة كركوك ( بيوت تكية الطالبانيين ) , وعبر التنظيم نقلوني الى مدينة السليمانية ومن ثم الى قضاء دربندخان ومحطتي الاخيرة الى قرية ( أحمد برناو ) , ومن هنا بدأت مسيرة نضالية جديدة في حياتي ألتقيت برفاق التنظيم المدني سلام العجيلي والشهداء محمد الخضري ومحمد وردة وأصبحت ضمن مفارزهم ومهمات تنظيماتهم ، خلال العمل في سهل شهرزور ألتقيت برفاق وتعرفت على رفاق جدد وأغلب النقاشات التي كانت تدور حول أمكانية أسقاط حكومة البعث . . باعتباري ملتحق جديد من الداخل كان رأيي لم يعجب العديد ممن كان يعتقد نظام البعث في العراق على حافة هاويه . . كنت أردد نحن في مواجهة البعث والنيل منه ليس بالأمر السهل , مما أعتبرها البعض تهبيط للمعنويات ، وأنا في رأيي حتى تواجه العدو بأساليب نضاليه صحيحة أن تعطيه حجمه الحقيقي .