حكاية من أرشيف الماضي المؤلم و المخيف ( من تجربة الجبل 5 )
محمد حسن السعدي
بعد أن يئست في العاصمة بغداد من اللقاء بالرفاق أثر الضربة المميتة لهم يوم ( غبشة شهر كانون الثاني ) عام ١٩٨٦ في قرية ( جديدة الشط ) , في محافظة ديالى والخيوط الممتدة لهم دمرت بالكامل .
صممت ان أشكل خيوط وخلايا خاصة بي , فبدأت بالتحرك بعدة أتجاهات بعد ما ضمنت سكن أمن في محلة الشيوخ بمدينة الكاظمية بيت الحاج غازي ، وعمل يومي في قرية الصمود بمنطقة الراشدية في ورشة عبد الخالق مطلك الدليمي , زرت الموصل مرة أخرى وسكنت بأقسامها الداخلية باسم وهوية مستعارة وبالتغطية من الدكتور محمد نعمة .. تحركت على مجموعة من الرفاق مما قطعت علاقتهم بالحزب .
واجهت معاناة حقيقية على إقل تقدير تعاطفهم معك بحذر وخوف .. تداعيات الوضع وسياسة البعث في كافةً المجالات تركت إثرآ سلبيا على مزاج الناس بالعمل السياسي أظافة الى الخوف والتردد ، وهناك عامل مهم أيضا رغم ويلات الحرب مع الجارة أيران ، كان النظام وبفضل دعم المساعدات الإقليمية والدولية له موفر للناس أكثر متطلباتهم الحياتية وتسهيلات في العمران والبناء والصحة والتعليم , تعرفت على خطوط حزبيه تديرها أجهزة القمع بمثابة ( فخ ) للمناضلين ممن يبحثون عن خيط للاتصال بالحزب ولهذا تجد ضمن تلك الخطوط شيوعيين يعملون بنكران ذات وهم تحت سيطرة وأدارة تلك الأجهزة وهم لا يدركون .. من ضمن تلك الخطوط التي صادفتني وتعرفت على بعضهم من خلال عبد الرضا رحمن طالب في الادارة والاقتصاد وعلاء سفر ونيران وعادل موات وحسين طلاب في هندسة بغداد .. كانت تصلهم إدبيات الحزب وبياناته يومآ بيوم , و حاولت أعرف عنهم الكثير من هو متورط ومن هو ضحية ؟ , لكن صعوبة الوضع السياسي والعمل الحزبي يضع بينك وبينهم مسافات طويلة .. في الختام راحوا ضحايا لهذا الوضع السياسي المعقد والمخيف .
في بغداد ربيع عام ١٩٨٦ تلقيت إشارة من التنظيم بالتقصي حول ما جرى في قرية جديدة الشط , كيف تم .. وما الذي حصل ؟ لم تعد هناك أخبار مؤكدة عن ما حدث لانه الجميع تقريبا ممن داخل التنظيم والمتعاطفين معهم في الزنازين والمعتقلات ، ومقطوعة كل الصلات التنظيمية والاجتماعية الا بعض أطراف حديث متناقلة عبر الألسن هنا وهناك , في ذلك الوقت أيضا وجدت صعوبة في التحرك سدت أمامي جميع المنافذ فاضطررت أن أعود الى الموصل وأسكن في الأقسام الداخلية لكلية الطب في غرفة مشتركة مع الطالب محمد نعمه من مدينة الشعلة بأسم علي وطالب طبيه من أهالي الحله .. إيضا شعرت بعدم الأمان من خلال تحركات طلبة الاتحاد الوطني في تعقب خطواتي والسؤال عني ؟.
وتجنباً من أن يكشف أمري ، عدت الى بغداد مع الرفيق محمد نعمه وأختفيت في بيتهم في مدينة الشعلة .. وكنت إتعرض كثيراً الى أسئلة والدته المحرجه الإنسانة الطيبة باعتباري طبيبا في الاجوبة على بعض شكواها الصحية .. ويتدخل الدكتور محمد وينقض الموقف , ذهبت بعد معاناة لم تعد سهلة الى بيت بنت خالي ( هدى ) في شارع ٥٢ مقابل حاكمية المخابرات .. دخلت من باب الحديقة فتسمرت في مكانها عندما رأتني واقفاً بجانب أبنها ( زيد ) وهو يلعب في الحديقة .. نقلاً عن الأخبار المغلوطة حول مصيري لسنوات الاختفاء المخيفة .
حاولت مساعدتي ، لكن وضعها لا يسمح لاعتبارات أمنية وعائلية , بعدها أنتقلت الى منطقة الدورة بيت صديقين حميمين أبن خالي وبنت خالتي ( علي و عاليه ) , وواجهت وضع نفسي صعب بسبب تحركاتهم التي لم تريحني فاضطررت أن أترك البيت رغم وضعي الأمني الصعب .. متشبثاً بالطرقات والمحطات والمأرب مأوى لي , و أخيرا أجبرت لخطورة وضعي الأمني والشخصي وبعد أن سدت أمامي كل الطرقات أن ألتجأ الى بيت أختي أم نغم في منطقة النهروان .. في ليليتين قضيتها في بيتها زادتني قلقاً .. حيث زوجها لم ينم تلك الليليتين جالساً في الحديقة ويدور مرعوباً حول البيت .
بعد أن عجزت في الوصول الى ما حدث في ( جديدة الشط ) , ألتقيت بأمي رغم الظروف الصعبة في بغداد ، لكن كان لقاءاً مدوياً ببركان من المشاعر والخوف والحسرة والألم والترقب والنوح والشوق .. سنوات أبعدتني عنهم ، كانت كفيلة بثمة تغيرات وتطورات .. غيابي لم يعد سهلاً لهم ، لقد ترك أثره العميق عليهم , تمكنت في هذا الأثناء بترتيب وضعي وسكني مرة أخرى , وبدأت أتنفس الصعداء .. لم يعد أمامي طريق أخر للوصول الى قرية ( جديدة الشط ) إلا عن طريق أمي بعد أن فشلت كل المحاولات السابقة .
في يوم من شهر حزيران سنة ١٩٨٦ , ذهبت أمي بعد أن سلمتها بعض الدلائل لتطمينهم عن معرفة القادم الى بيت الحاج ( صفوك ) .. في بستان بيتهم ( وكر ) قيادة تنظيمات المنطقة الوسطى للحزب الشيوعي العراقي ، وقد تمت مداهمتهم في يوم رأس السنة الميلادية من عام ١٩٨٦ ساعة صفر واحدة من ذلك الصباح الشتوي القارص ، وتم القضاء تقريباً على الجميع حتى ممن يختفي في العاصمة بغداد ومحافظات أخرى .. رأت أمي حجم الدمار في البيت والبستان وتعرضت الى تهديد حقيقي الى تسليمها للأمن من قبل الحاج صفوك ظناً منه أنها مبعوثه من أجهزة الأمن ، وهذا أسلوب أمني قذر نجحوا في أستخدامه بتخويف الناس ورعبهم .
في الختام تمكنت أمي من أقناعه وتهدئته وبمساعدة بنت أبنه الكبير ( مخيبر ) لينا .. وتعاملوا معها بأسلوب آخر , وكتبت لينا رسالة مفصلة وطويلة بما حدث من ذلك اليوم وسلمتها الى أمي .. وبعد أيام أستلمتها أنا في بغداد , لتفاصيلها الخطيرة وحجم أضرارها مستقبلاً على التنظيم والناس حملتها وذهبت بها رغم خطورة الوضع من بغداد الى الموصل وأخذت مقعداً في سيارة أجرة من كراج الموصل المحلي الى قضاء القوش مع ثمة ركاب من أبناء المنطقة ، كان يوماً عراقياً قائضاً ، في وسط الطريق بين قضائي الشيخان والقوش طلبت من السائق أن يتوقف فترجلت وسط نظرات فضول الراكبين , وأخذت حالاً ماشياً طريق فرعي باتجاه قرية لم تعد ذاكرتي تختزن أسمها ، حيث بيت رفيقنا أبو آشور .. القرية مشمولة بقانون قطع الكهرباء عنها وعن ناسها .
رفيقنا أبو آشور مرابطاً في الجبل مع رفاق محلية الموصل وزوجته وأولاده الصغار في بيت داخل القرية ، متى ما سمحت له الفرصة يزورهم في الليل لساعات ويعود بنفس الليلة الى الجبل تحسباً من هجمات الجيش ومحاصرة القرية .