الحقيقة و الكذب في مسرحية ماكسيم غوركي “في الحضيض”
د.تحسين رزاق عزيز
كتب غوركي في عام 1902 “مسرحية في الحضيض” التي عززت شهرته العالمية والتي لا تزال تعرض على خشبة المسرح طوال طوال أكثر من قرن من الزمان , تناول غوركي في مسرحيته هذه فن الدراما الفلسفية، التي تستند فيها الحوادث الخارجية على صراع الحب لثلاث شخصيات (بيل – ناتاشا – كوستيليوفا) ولا يمثل هذا الصراع إلا خلفية لتطور الحوادث الداخلية التي تكمن في الصراع الفلسفي بين أفكار لوقا وساتين.
عرض غوركي في مسرحية “في الحضيض” حياة الطبقات السفلى في المجتمع وصوّر آمال وأماني الفقراء وكشف للقراء والمتفرجين العالم الأخلاقي والروحي للناس الذين كانوا يُعَدّون منبوذين قبل ذلك , وقد وصف الكاتب في هذه المسرحية مجموعة من الأشخاص يسكنون نُزُلاً رخيصاً , وعرض في نتاجه حقيقتين رئيسيتين اثنتين لشخصيتين من شخصيّات المسرحية هما لوقا وساتين.
لوقا – داعية ديني متجول له مفهوم خاص به عن الحقيقة. يضع هذا البطل قبل كل شيء مشاعر الإنسان ويعتقد أن “… دغدغة مشاعر الإنسان ليست مُضِرّة أبدا …” ويجب التعامل مع الإنسان بمروءة , لهذا نرى لوقا يقول لكل شخص في المسرحية ما يريد أن يسمع , فيقول لبيبيل .. مثلاً، أن بإمكانه التخلص من الحضيض ولآنّا وهي تحتضر أن أفضل عالم ينتظرها بعد الموت ولأكتو ران هناك مصحّة لعلاج المدمنين على الكحول وبإمكانه ان يعود لحياته الاعتيادية.
تبدو لنا أفكاره للوهلة الأولي مُسَوَّغة : فآنّا تحصل فعلاً على السلوى في لحظاتها الأخيرة، ويحصل بيبيل على الأمل، لكن التطور اللاحق لأحداث المسرحية يدحض حقيقة لوقا بالكامل , بيبيل يدخل السجن وأكتور ينتحر بعد ان يفهم ان لا خيار امامه , فقد انهارت الآمال التي كانت عند هؤلاء الأشخاص , والنتيجة ان لا مخرج من الحضيض وان أبطال المسرحية يقعون في مأزق حياتي وان لا أمل عندهم ولا فرصة أمامهم للخروج من القعر (الحضيض).
كلا .. ففي نهاية المسرحية نسمع مونولوجات واضحة يتفوّه بها ساتين الذي لم يتميّز قبل ذلك بأي شيء , والغريب ان نسمع هذه الكلمات من شفاه صعلوك عادي، لكن هنا بالذات تكمن فكرة الكاتب الكبير عندما يعرض كيف تظهر عند الإنسان الذي كان على شفا جرفٍ هارٍ الرغبة في تجاوز هاوية السقوط والتسامي فوق الجراح وتشييد حياته من جديد.
ينحصر جوهر حقيقة ساتين بالنظر الى الأشياء بعين واعية متبصِّرة والسير الى الأمام بكل إصرار لتحقيق الهدف المنشود وعدم خداع النفس بالأماني الكاذبة , ولا بد للقارئ ان يشاطر ساتين وجهة نظره هذه , وهذا ما يؤكده سير الأحداث في المسرحية.
يقول ساتين : “الإنسان ليس بحاجة الى العطف”، وفعلاً بعد قراءة المسرحية نفهم ان الشفقة تُذِل الإنسان و تجعله تعيساً , لا تُناقض حقيقة لوقا حقيقةَ ساتين في كل شئ : لوقا يقول “يجب احترام الإنسان” وساتين يقول عن لوقا انه ” … ذكي … وقد أثَّر فيَّ كما يفعل الحامض بالعملة القديمة الصدئة…”.
تتجلى في مسرحية “في الحضيض” واحدة من قضايا البشرية الخالدة: الكذب من اجل إسعاد الآخرين وإنقاذهم , أشَرٌ هو ام خير؟! , يصعب علينا اختيار إحدى الحقيقتين : إذ يَعِزُّ علينا أن لا نقول لمن يحتضر كلمات السلوى من جانب ومن جانب آخر لا بد ان نوافق ساتين على فهمه للحقيقة. تظهر عبقرية غوركي في قدرته على عرض قضية فلسفية وتناول جوانبها المتنوعة وتبيين وجهات نظر مختلفة , استطاع الكاتب ان يدلي برأيه ليس كقاضي بل كشاهد على الحياة منصف.
دحض غوركي في مسرحية “في الحضيض” مبادئ المثالية الأساسية كلها بما فيها فكرة الاستسلام والمسامحة والاستكانة , المسرحية مليئة بفكرة الإيمان بالإنسان القوي العزيز الذي ليس بحاجة الى الشفقة والعطف، الانسان صاحب الكرامة والعزة.
مسرحية “في الحضيض” واحدة من الأعمال المهمة التي وضعت اللبنة الأساسية لمذهب الواقعية الاشتراكية رغم أن مؤلفها كتبها قبل ثورة أكتوبر الاشتراكية بخمسة عشر عاماً.