الضحك عند “غوغول” لا نهاية له . . ثم على من تضحك ؟
ترجمة : د. تحسين رزاق عزيز
(لقاء مع الكاتب المسرحي نيكولاي كوليادا )
_ نيكولاي فلاديميروفيتش، متى تعرفت على غوغول؟
عندما كنت صغيراً وبعد أن تعلمت القراءة (قرأت كثيراً جداً رغم ان في بلدتنا كانت مكتبتان فقط) قرأت كلما وقع في يدي وانكببت طبعاً على قراءة غوغول , قرأت “ليلة عيد الميلاد” ورأيت في بدايتها هامشاً معروفاً جداً : كوليادوڤات تعني عندنا الغناء تحت النوافذ عشية عيد الميلاد بالأغاني التي تسمى كوليادكي .. يقال انه عاش في زمان ما أبله يدعى كوليادا الذي عدوه إلاهاً ويُزعم من هنا جاءت تسمية كوليادكى , ومن يعرف قد تكون حقيقة؟”, تعجبت جداً عندما رأيت اسم عائلتي , إن أبي أوكراني واسم عائلتي أوكراني جميل، لكن آنذاك خُيِّل إليّ إنها مبتدَعة ومضحِكة , وفجأة صادفتها بصورة غير متوقعة عند غوغول , فقد كتب عن عائلتي ! عندها وجهت اهتمامي إلى إبداع نيكولاي فاسيليفيتش , ومنذ ذلك الوقت وأنا متعلق به جداً , قرأت كل ما كتب غوغول، ربما ألف مرة وأحببته دائماً وما أزال أحبه حتى الآن لأنه كاتب نادر , حتى اني لا استطيع أن أقول أي نص من نصوص غوغول أحبه أكثر من غيره كل شيء عنده رائع “الأنفس الميتة” رائعة، تأخذ كل سطر فيها تقرأه وتعيد قراءته وتتمتع.
_ انك كثيراً ما تحول أعمالاً قصصية إلى مسرحيات خاصة تلك التي تعتمد على مواضيع نتاجات غوغول , لماذا كل هذا الاهتمام بنصوص هذا الكاتب الكلاسيكي؟
يربطني بغوغول الكثير بوصفي كاتباً مسرحياً ومخرجاً وكل “توجه إلى غوغول” له حكايته , بدأ كل شيء من ليا أخيدجاكوڤا التي طلبت مني أن اكتب لها “إقطاعيو أيام زمان (وأسميت المسرحية “حب أيام زمان ) ,باشرت بالعمل، فعشت ببلدة لوغينوفو وكتبت , كان العمل في البداية صعباً : كنت اكتب وأفكر . . ما حاجتي لهذا ؟ لكني في منتصف المسرحية فهمت اني اكتب عن والدَيَّ عن أمي وأبي وسرعان ما صار العمل سهلاً , وسار العمل بسرعة كبيرة , ربما لهذا عاشت المسرحية حياة أطول , اخرجَ مسرحية “حب أيام زمان” فاليري فوكين وهو مخرج موهوب ومعروف كثيراً، وأدى تمثيل ادوار المسرحية أخيدجاكوفا وبوغدان ستوبكا لفترة طويلة استمرت 6 او 8 سنوات ويشعرني باللذة عرض المسرحية في الوقت الحاضر في مسارح مختلفة (في نوفوسيبيرسك وفي روستوف على الدون) ويفرحني إلى الآن اني كتبت مسرحية متكاملة حولتها عن قصة , ولم تُعَدُّ قصة غوغول هذه سابقاً إلى المسرح. وكتبت لأخيدجاكوفا من مواضيع غوغول “كوروبوتشكا” : جربت أن آخذ من (الأنفس الميتة شخصية واحدة وابحث “ملامح الشخصية الروسية” , وكما يقول غوغول : انه من نوع آخر ورجل دولة محترم بل حتى انه إنسان وفي الحقيقة تخرج كوروبتشكا متكاملة” , وكنت مهتماً بدراسة هذه “العقلية المتحجرة” للإنسان الروسي.
وقبل مدة وجيزة كتبت لأولغا أروسيفا مسرحية ” ايفان فيدوروفيتش شبونكا وخالته” , واعتقد أني أحسنت “صنعتها” وظهرت مسرحية جيدة بهذا الشكل وربما أخرجها في مسرحه , ولم يُعِد أي أحد هذه القصة غير المكتملة إلى المسرح , وكانت في السبعينيات تمثيلية في التلفزيون قدمها فوكين وتاباكوف ولكني لا اعرف من حولها إلى تمثيلية وهل بقي شريط الفيديو لهذه التمثيلية سالماً , أخذت مسرحيات نيكولاي فاسيليفيتش المبكرة و” لصَّقتها” وأضفت إليها من عندي , وتم ذلك بنجاح نوعاً ما وخرجت برأيي قصة متكاملة.
_ أي أعمالك التي أخرجتها على المسرح من نتاجات غوغول تراها حققت نجاحاً أكثر من غيرها؟
ربما “المفتش” قدمتها عندي على المسرح على خلفية الفساد الحالي , والمسرحية تعرض منذ سنوات طوال وتنقَّلْنا بها في بلدان مختلفة . . مثلاً كنا قبل مدة وجيزة في فرنسا وأينما حل غوغول في هذا العرض يُستقبل بهتافات “مرحى”.
إضافة لذلك أخرجت في العام الماضي على مسرح الدمى الدمى مسرحية “باشماتشكين” لتلميذي أوليغ بوغايف ونجح العرض كما يبدو لي كثيراً , وكانت مسرحية جيدة.
أحب مسرحيتي “الخطوبة” وأتذكر كيف عرضناها في موسكو على مسرح “المعاصر”، وكيف طغت ضحكات أخيدجاكوفا على المسرح كله وكيف حركت القاعة كلها بضحكاتها , بعد العرض خرجت خلف الكواليس وقالت لي : “كوليا، إنها تحفة !” لقد شعرت بالرضا كثيراً عندما سمعت أخيدجاكوفا وهي الفنانة الرائعة تقول هذه الكلمات , وكيف لا يكون ذلك انه غوغول , يمثل في المسرحيات الثلاث جميعها أوليغ باغودين وهو ممثل رائع. فقد أدى ادوار كل من باشماتشكين وخليستاكوف وبودكوليسين.
_ كم يبدو لك مقدار تكافؤ إبداع غوغول مع روح العصر؟
قال غيورغي توفسيتونوغوف وهو مخرج كبير إن الأعمال الكلاسيكية يجب أن تصدح على خشبة المسرح كما لو كنت تقرأ صحيفة اليوم , المسرح يجب أن يكون معاصراً , وغوغول عصري تماماً , عندما جرت قمة منظمة شنغهاي للتعاون في مدينة يكاتيرينبورغ تذكرون كيف سرت شائعات تزعم بوصول “مفتش” حقيقي إلى المدينة كانت تعرض لدينا هناك مسرحية “المفتش” , ويجب أن أقول : الجمهور ضحك حتى وقع من الضحك . . ضحك الجميع وكأنهم مجانين تماماً , لأنه كان إحساس كامل بأن ما يعرض على الخشبة يحدث عندنا في المدينة أمام أعيننا، حالة المدينة الروسية والوضع في روسيا في زمن غوغول ينطبق على واقعنا اليوم. الحقيقة انه لم يتغير شيء في روسيا : كل شيء فيها منهوب، وما زالت لدينا مصيبتين (كما يقول غوغول) الحمقى والطرق , ولا اعتقد أن في يوم ما سيتغير شيء.
_ بوصفك مخرج هل تعاني من “مقاومة المادة” عندما تقدم غوغول ؟ وهل العمل على النصوص الكلاسيكية سهل ؟
كلا . . لا توجد أي مقاومة , فنصوص غوغول بالنسبة لي مطاوعة تماماً , لقد كانت مسرحيات “المفتش” و”الخطوبة” عند عرضها خفيفة جداً أو مرحة ومضحكة , المهم في العمل على المسرحية أن لا يمل الممثلون ولا يضجرون , يقرأ الفنانون ويضحكون لأن كل شيء يبدو معاصراً بشكل لا يصدق وبارعاً بشكل مدهش , ولا حاجة للبروفات كل شيء يسير بنفسه.
_ انك تُدَرِّس منذ مدة طويلة في معهد المسرح , هل ترى من موقع الشخص الذي يُعَلِّم الكتابة , أن غوغول مفيد للمؤلفين الشباب ؟ وهل هو مثير لاهتمامهم ؟
إني في معهد المسرح الذي أُدَرِّس فيه منذ سنوات طوال أقول لطلبتي في كل محاضرة : ما هي المسرحية ؟ هي، أولاً الفكرة , أريد أن أقول شيئاً للناس مهماً وضرورياً . . ثانياً : الكلمة كل كلمة يجب أن “تتدحرج في الصحن” كثمرة التفاح البري (تذكروا على سبيل المثال كيف يحب نابوكوف الكلمة وكيف يمنح القارئ الشعور بها و”شم رائحتها”) وثالثاً : الشخصية كل شخص هو مثير للاهتمام، سواءً الذي يمر في الشارع بالقرب منك أو الذي يجلس إلى جانبك.
هذه هي المكونات الثلاثة الأهم ولكن إذا لم يكن في هذا كله ألم، ألم على الناس الذين تكتب عنهم، لا يحصل أي شيء , المسرح هو عندما يكون المضحك مضحكاً، وعندما اضحك حتى أقع من الضحك ثم فجأة ابكي , الناس من اجل هذا فحسب من اجل إمكانية الضحك ومن ثم البكاء يأتون إلى المسرح , وهذا ما هو موجود عند غوغول بالذات عند غوغول , الضحك لا حدود له ومن ثم”تضحك على من” ؟ إن نصوص غوغول من وجهة النظر هذه تعد نموذجية، فهي ببساطة مبنية بصورة خالية من العيوب , إني دائماً ما أقول عند تحليل المسرحيات : أين برأيك حدث الانطلاق في المسرحية ؟ تَذَكَّر : “إني دعوتك يا سيدي ، لأخبرك. .” , وإذا لم يكن هناك حدث انطلاق فإن كل شيء “سيتفتت” , أسعى لأُعَلِّم كتاب المسرح المستقبليين بنصوص من أعمال غوغول لأنها مثالية من كل النواحي.
_ هل يقرأ طلابك الأعمال الكلاسيكية؟
هذه نقطة حساسة , طبعاً أنا أحاول “أن أجبرهم”، لكن الفائدة المرجوة من هذا قليلة . . كيف يمكن أن تجبر أحداً على القراءة ؟ المواقف مختلفة لدى الجميع. البعض يريد أن يتعلم، والبعض الآخر لا أبالي , الذي يريد يقرأ لكن لا استطيع أن اضربهم بالعصا من اجل ذلك إنها مشكلتهم وحياتهم الخاصة.
قبل مدة قليلة جاءني احد الطلبة وأشار إلى “النفوس الميتة” وقال : “انه كتاب رائع، الآن كنت اركب المترو، وانتهيت من قراءة الصفحة الأخيرة . . انه كتاب ممتاز!” بماذا يمكن أن أرد على هذا؟ حسناً فعلت ممتاز , وكان هذا الطالب أنهى المرحلة الثانية. , تشعر بالعار على الطلبة من مثل هذه الحالات , أحياناً تقول في المحاضرة عبارة من نص مشهور ما وتسال من أين هذا الاقتباس ؟ وترى أربعين شخصاً ينظرون إليك ويقولون لا اعرف , ما العمل ؟ إنهم لا يفهمون بأن الاشتغال بالكتابة صعب بشكل لا يُصدَّق . . اقعد واكتب واعمل , بينما هم يتكلمون ويتكلمون فقط، ويريدون أن يصدموا احدهم أو يدهشوه وبأي شيء يمكن أن يدهشوه؟ بالألفاظ النابية أم بالجنس والمخدرات.
إما تكون الأحداث تجري في السماء وإما هبطت سفينة من كوكب آخر , لا يتطلب الأمر أكثر من النظر إلى الحياة بصورة أكثر قرباً- هنا مأساة لا داعي لها. ومع هذا فالناس أجناس هناك مَن يحب الاطلاع وهو موهوب وهناك من يريدون الحصول على الشهادة وحسب , لا تستطيع أن تفعل شيئاً هنا، لا يمكن أن يكون الجميع على شاكلة غوغول.
أجرى الحوار ويو باغدوساريان
أستاذ، دكتور في قسم الأدب الروسي المعاصر في جامعة الأورال التربوية.