قحطان جاسم جواد
فجَأة تذكر الجميع أن الفنان العراقي الكبير عزيـز علي ما زال موجوداً , وخلال الأشهر القليلة من عام 1991 كانت كل الصحف تتحدث عن الفنان عزيز علي ومونولوجاته التي هز فيها الحكومات العميلة للاستعمار في العهود البائدة , فقررت اجراء حوار مع عزيز علي كانت الفكرة في البداية اجراء لقاء مع الشاعر والمونولوجست عزيز علي لكني عندما التقيته لاول مرة وحدثني عن بعض الاحداث التي عاصرها ابان الحكم الملكي وحكم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وجدت ان عزيز علي لا يمكن ان نلم بتاريخه الفني في لقاء او حتى لقاءين بل وجدت انه يستحق ان نكتب عنه عدة موضوعات في ملف ننشره عبر اعداد مجلة الف باء التي كنت اعمل فيها انذاك.
الملف تضمن تعريفاً بفن هذا الفنان الكبير ولمحة عن حياته وفنه كما تضمن لقاءات اجريتها معه في منزله لعدة ايام. وكذلك سيتضمن الكتاب بعض التفاصيل عن الكتب التي تناولت مسيرته اضافة الى تثبيت بعض كلمات مونولوجاته وبعض التقييمات والذكريات لبعض الشخصيات التي عاصرته .. اضافة الى حلقة خاصة عن برنامجه الشهير (في رحاب الفـن) الذي هز الاوساط الفنية في منتصف الستينات باعتباره خروجاً عما كان مألوفاً آنذاك والبرنامج يعد حجر الزاوية في تفكير وسلوك واراء عزيز علي الذي امضى سنوات عمره من اجل نشرها وتثبيتها والدفاع عنها.
عزيز علي فنان كبير وقدير ويكفيه فخراً ان مونولوجاته اصبحت صالحة لكل العصور لما فيها من عبقرية هذا الرجل الكبير بفنه وثقافته. فمثلما اخافت مونولوجاته العهد الملكي خاف منها عبد الكريم قاسم وتلاه عبد السلام عارف ثم جاء دور البعثيين .. وقد استخدمت المعارضة العراقية خارج العراق ضد نظام الرئيس السابق صدام حسين اقوال ومونولوجات عزيز علي لكشف الكثير من خفايا وعيوب النظام.
وما تزال لحد يومنا هذا اقوال او مونولوجات عزيز علي حاضرة ومؤثرة بالرغم من انه كتبها ولحنها قبل اكثر من نصف قرن.. فأي كلمات تلك التي يبقى تأثيرها السحري نابضاً برغم تقادم السنين .. انها العبقرية الحقة , عزيز علي صال وجال في دنيا الفن واصبح ظاهرة فريدة في عهده ومماته برغم انه لم ينل حقه في الرعاية والاهتمــام والاعلام .. واذكر اني يوم قررت الكتابة عنه نبهني البعض الى اني ادخل نفسي في مشاكل أنا في غنى عنها لان عزيز كان مكروهاً من النظام او غير محبوب !
لكني لم الق بالاً لذلك ذهبت الى عزيز في داره او غرفته البسيطة وحققت حواراً رائعاً وثميناً يحق لي الفخر والاعتــزاز به .. وهنا لا بد من التقدم بالشكر الكبير لمن ساعدني في الوصول الى بيت عزيز وتحقيق اللقاء معه وهم الناقد الراحل عبد الوهاب الشيخلي وابو علاء زميلي العزيز في مجلة الف باء وكتاب اللحن الساخر لزميلنا الكبير حسن العلوي الذي يعد من اهم الكتب التي تناولت شخصية عزيز علي وكذلك الزميل عقيل ابراهيم العطية والزميل علي حسين والباحث فلاح الخياط , وكل من ساعدنا بتقديم الصور والوثائق عن حياة هذا الفنان الفلتة.
ومن هنا سنحاول سبر اغوار شخصيته ونستعرض اهم ما فيها. قال عزيز علي ان المونولوج مصطلح يوناني لاتيني مركب من كلمتين همـا مونو وتعني فرد او فردي و لوج وتعني كلمة او خطاب فيصبح المعنى بالكامل (الكلام الفردي او الخطاب الفردي) وهذا يشمل كل كلام فردي او خطاب سواء كان ملحناً او غير ملحن , لكن هذه التسمية ابتعدت عن مضمونها كثيراً فصارت تطلق في الوطن العربي على لون غنائي شعبي يتداوله المهرجون والضحاكون.
ويضيف عزيز : اما في العراق فالامر يختلف تماماً اذ كان القطر يتطلع الى لون غنائي جديد يصب فيه عواطف ويحدد من خلاله مواقفه ازاء قضايا العصر الجديدة , وكان لا بد من ظهور مونولوج جديد بمضامينـه واهدافه كي يكون رداً على اغاني السقوط والانحلال ويبتعد عن المونولوج في مصر ولبنان وسوريا , مونولوج ينتقل بالغناء السطحي والهابط الى غناء ثوري مرتبط بالمجتمع والشعب ويدافع عن حقوق المواطنين , ويكشف عورات النظام الفاسد ويدفع الناس للثورة على الظلم والفساد ويحرضهم ضد السلطة الرجعية والاستعمار البريطاني الجاثم على صدر الشعب العراقي وهذا هو بالضبط ما فعله عزيز علي عن طريق المونولوج منذ اواسط الثلاثينات حين انطلق عزيز علي يردد المونولوج وتردده معه جماهير شعبنا ساخرة معه من رجال السلطة ومن المستعمرين واذنابهم , وقد ساعده في تحقيق ذلك النجاح المنقطع النظير الحنجرة الثمينة التي وهبه اياه الله سبحانه وتعالى وهي حنجرة مليئة بحرارة الايمان ووقار الرجولة وقوة التجربة.
* بماذا تسلح عزيز علي في هذا الجانب ؟
_ دخلت الى هذا العالم متسلحاً بدراسة اوزان الشعر العربي القديم دراسة موسيقية استطعت من خلالها ان اختار البحر المناسب منها لكل تجربة، كما اجدت نظم الشعر وجميع ما قدمته من مونولوجات كانت من نظمي وبذلك جمعت بين نظم الشعر وحلاوة الصوت ومعرفة الموسيقى , وهي حالة نادرة في الفترة التي ظهرت فيها، على حد تعبيره.
* سألت فناننا القدير عزيز علي من أنت وكيف بدأت ؟ فقال :
_ أنا عزيز بن علي بن عبد العزيز بن علي بن حاتم بن هاني ولدت في محلة الشيخ بشار في جانب الكرخ في ربيع الأول من عام 1911 (أي أن عمره 81 عاماً عندما التقيته اول مرة في نهاية عام 1991) وبعد ان ختمت القرآن عند الملا في محلة رأس الجسر , جسر الشهداء حالياً نقلني والدي الى (الملا داود) في محلة الفحامة وظللت عنده ثلاث سنوات تعلمت على يديــه القراءة والكتابة وختم القرآن ثم علمني شقيقي عمليات الحساب الاربع والتاريخ والجغرافية في الصف الرابع واكملت الابتدائيـــة والتحقت بالثانوية في الاعدادية المركزية في الرصافة وهي المدرسة الثانوية الوحيدة في بغداد آنذاك.
في عام 1926 قررت وزارة المعارف فصلي من المدرسة لمعارضتي فصل الاستاذ انيس النصولي مدرس التاريخ في الاعدادية المركزية مع مجموعة من الاساتذة والطلبة بسبب ما ورد في كتابه الدولة الاموية في الشام .. وبعد ان الغت الوزارة قرارها كانت الامتحانات على الابواب فلم اتمكن من اجتيازها وكنت في الصف الثالث الادبي وقتذاك .. فقررت الانتقال الى دار المعلمين.
في عام 1928 فصلت من الدراسة مع عدد من طلبة واساتذة دار المعلمين لمشاركتي المميزة في المظاهرة الكبرى التي خرجت بها بغداد احتجاجاً على مجيء المدعو (سير الفريد موند) الداعية الصهيوني الى العراق .. وكنت اتولى الهتاف في المظاهرة وقد ظهرت صورتي في المقدمة وتحت لافتة كتب عليها (فلتحيا الامة العربية) كانت الصورة قد التقطتها شرطة التحقيقات الجنائية وكان معي في التظاهرة (حسين جميل وفائق السامرائي وعبد القادر اسماعيل) وهم المشرفون على تنظيم تلك التظاهرة وقد فصلوا ايضا.
وفي موسم 1930 – 1931 شاركت في الامتحانات الخارجية ونلت شهادة الاعدادية وكان بودي ان ادخل كلية الحقوق لكن وفاة والدي , الذي ترك لي رعاية امي واختي وابنتها حالت دون ذلك , وقبل حصولي على الاعدادية في 2 نيسان 1928 عملت موظفاً في دائرة كمرك ومكوس بغداد.
وبعد ثورة رشيد عالي الكيلاني فصلت من خدمة الكمرك بعد ان اذاعت في الاذاعة ما يؤيد الثورة وبعد شهر من فصلي اتهمت باني حزت على مروحة منضدية من اموال اليهود المنهوبة ! وحكم علي بالسجن لمدة عامين قضيت منها بضعـة اشهر في سجن باب المعظم ثم نقلت الى سجن الكاظمية ثم عدت الى سجن باب المعظم بعد اسابيع ومنه الى سجن العمارة مع مجموعة من الوطنين والقوميين.
