“آرا خاجادور” و زيارة التاريخ ( 1 )
د. عبد الحسين شعبان
فِي رحلة الاستشفاء التي صحبتني فيها ابنتي سنا إلى براغ، وضعت ضمن برنامجي اللقاء مع آرا خاجادور، الذي اعتدتُ زيارته واللقاء به عند كل رحلة , وهذه الزيارة كانت مميّزة، فعلى طول الطريق إليه مشياً على الأقدام وفي أزقة المدينة القديمة وحاراتها العتيقة كنتُ أحدّث سنا عنه وعن نضال الشيوعيين العراقيين، خصوصاً من الرعيل الأول، وكانت ابنتي تزداد فضولاً كلّما عرفت فصلاً جديداً من فصول حياته، وتساءلت بكل براءة : كيف تسنّى له البقاء في السجن عشر سنوات ؟ وأية قدرة عجيبة تلك على تحمّل كل هذا العذاب؟ وإذا كان بإمكانه الحصول على حرّيته مقابل كلمة أو توقيع لإنهاء محكوميته وإطلاق سراحه، كما تقول .
فلماذا لم يفعلها ؟ وماذا كان ذلك سيؤثر على شيوعيته، وللإنسان في نهاية المطاف طاقة محدودة على التحمّل؟ ثم تساءلت ماذا بقي من أحلامه الآن؟ ألم تتكسّر على رصيف الواقع؟ وكيف ينظر هو إلى الماضي؟ وكيف يرى العالم بعد انهيار جدار برلين وتفكّك الاتحاد السوفييتي؟ فهل أصيب هو الآخر بالخيبة؟ وهل هو نادم؟ وأسألكم أنتم أيضاً هل تشعرون بالندم وقد أفنيتم زهرة شبابكم، ولكن النتيجة كانت أن سارت الأمور عكس ما ناضلتم من أجله؟ أكنتم في أحلام أم أوهام؟ وهل استفقتم وإذا كان الجواب بنعم، فمتى؟
وبعد كل هذه الرحلة المضنية والانكسارات : ماذا تريدون؟ ألا زلتم كما كنتم سابقاً أم إن تغييرات جوهرية طرأت عليكم؟ وعند الفشل فعلى الإنسان مراجعة حساباته، ماذا حصل ولماذا؟ وقارنت حالنا وحال من تعرفهم من أصدقائنا، وفي ذلك اختلط نقدها بلومها ومواساتها، فلم أستطع أن أميّز. وعلى طول الطريق أمطرتني بأسئلة أخرى شائكة، لم يكن بإمكاني الإجابة عنها، منها، أين حزبكم الذي تحدثني عن أمجاده؟ ولماذا يتركُ مناضلاً مثل آرا خاجادور وقد بلغ عمره أكثر من 91 عاماً كما تقول، بلا مُعين وبلا مورد كما أخبرتني؟ وحين سألتني هل البيت الذي يسكن فيه ملكه أم هو مستأجر، فقلت لها حسب معلوماتي، إنه كان بيتاً أعطته الحكومة التشيكية للحزب الشيوعي العراقي في الستينات لاستخدامه للأغراض الحزبية، ومنذ ذلك التاريخ، وحتى سقوط النظام الاشتراكي، فالبيت ذو الإيجار الرمزي في حينها ظلّ في حوزة الحزب.
وبما أن آرا خاجادور كان يسكنه في سنواته الأخيرة، فقد قررت دائرة البلدية تنظيم عقد إيجار معه، وهذا ما حصل، وإن عائلته وأصدقاءه هم من يتولون تسديد إيجار الدار , قالت سنا وهي تنظرني بشزر ولكن بمرارة مصحوبة بسخرية حزينة: أهذا هو الوفاء بعد كل هذه التضحيات؟ وكانت بعض هموم وأحزان، قد سمعتها وتلمّستها من والدتها الشيوعية أيضاً ساهرة القرغولي. ثم تحوّلت في نقاشها وأسئلتها إلى الشأن العام، فقالت: تقولون إن العراق وقع في قبضة الإسلاميين، وإن داعش تصول وتجول في البلاد طولاً وعرضاً، وإن تفجيراتها مثل بيض يفقس كل يوم ويتكاثر على نحو غريب، فأين أنتم؟ وماذا كنتم تفعلون طيلة هذه السنوات؟ وإلاّ كيف تستلم البلاد مثل هذه القوى، سواء التي ترفع راية الإسلام السياسي أو القوى الإرهابية الظلامية التي لم تترك شأنا إلاّ وتدخّلت فيه بما فيه الحياة الشخصية للناس وتضطهد النساء، وتلاحق المسيحيين والإيزيديين لتقتلهم إن لم يتأسلموا، وتغتصب نساءهم وتأخذهم سبايا.
لم يحدث مثل هذا الأمر في القرن الماضي، فكيف يحدث الآن في القرن الحادي والعشرين؟ وأين قوى التنوير والحداثة والكلام عن العقلانية والعلمانية، وإذا الدين بصورته الداعشية أو الطائفية يحكم الجميع، وكلٌ يجد في بعض جماعاته ملاذاً له، قلت لها تصوري حتى بعض اليساريين أخذوا يتحدثون عن «المرجعية» وفضائلها ودورها في الإصلاح في مداهنة سمجة وتملّق مفضوح , لم يكن بإمكاني أن أجد تفسيرات مقنعة لبعض حالنا وما وصلنا إليه، وخصوصاً ما صاحب علاقاتنا من قسوة وخشونة وجحود وابتعاد عن القيم التي ناضلنا لتعميمها، وإذا بنا أول من يضحّي بها، وعن أخلاق افترضنا أنها أكثر صميمية بين الرفاق، وإذا بهم أكثر بُعداً عنها من البشر العاديين.
وتوقّفتُ عند مسألة في غاية الأهمية، وضعتها على شكل سؤال: كم خرّبت الأنظمة والأفكار الشمولية القيم والمفاهيم والبشر؟ وكم كان ضحاياها؟ وكم كان ثمن الاحتجاج باهظاً؟ ولنا من تجارب البلدان الاشتراكية السابقة، وما أطلقنا عليه التحرّر الوطني أمثلة صارخة وحيّة على بعض الممارسات الشائنة، لا سيّما إزاء الرأي الآخر، وكما يقول سعدي يوسف «آه كم كان يرهقني احتجاجي»؟ وتوقّفنا قليلاً لنتطلّع إلى الأعلى، ونشاهد الأبنية الجميلة التي تعود إلى قرون من الزمان والتماثيل الخالدة، وكلّها تشير إلى عظمة الإنسان، باني هذه المدينة، فبعقل الشغيلة وبسواعدهم، أشيدت براغ على أيدي ملوك بوهيميا، وعرفت الازدهار خلال القرن الرابع عشر على يد الملك جارلس الرابع، الذي بنى البلدة الجديدة وأشهر جسر في براغ جسر جارلس وأقدم جامعة في أوروبا الوسطى جامعة جارلس وكاتدرائية القديس فيتوس وهي من أكثر الكاتدرائيات القوطية قِدماً في أوروبا الوسطى.
وتكوّنت براغ التي نعرفها سنة 1748، من خلال دمج أربع مدن صغيرة: البلدة القديمة والبلدة الجديدة وحي القلعة ومالاسترانا (الساحة الصغيرة)، وقد تم اعلانها، بعد الحرب العالمية الاولى عام 1918، عاصمة دولة تشيكوسلوفاكيا، لتصبح عام 1993 عاصمة لجمهورية تشيكيا بعد انفصال سلوفاكيا عنها , وتعتبر براغ المدينة الذهبية حيث ترتفع فوق قصورها وكنائسها أبراج مغطّاة بالذهب تصل إلى المئة. لم أستطع وأنا استغرق في مشاهدتي إلاّ استعادة ذاكرتي في براغ للساحة الصغيرة وجسر جارلس وحارة اليهود، لأنعطف قليلاً باتجاه نهر الفلتافا وكلية الحقوق، متّجهاً إلى الساحة القديمة والساعة التاريخية ونصب المصلح يان هوس، ومنها في الأزقة الضيقة المتفرّعة، وصولاً إلى منزل آرا خاجادور.
في تلك اللحظة كانت تنتصب أمامي مدينتي العتيدة (بغداد – النجف) وهما واحدة عندي وتكمّل إحداهما الأخرى في هارموني عجيب، وكم حزنتُ حين بدأت تدور المقارنات في ذهني لتعصف بها ريح عاتية، لم أستطع التخلّص منها: هنا كيف يحافظون على شكل مدينتهم بعمرانها القديم ومتاحفها ومسارحها وتماثيلها وشوارعها ويعيدون ترميم ما تآكل منها أو تصدّع، في حين نرى معاول التجريف والهدم تفعل فعلها في مدينتا، خصوصاً بصعود النزعة البدوية – القروية المتخلّفة التي حاولت مسح آثارنا، بما فيها ذاكرتنا، وتشويه معالمها وتجريدها من عبق التاريخ ونكهته. استعدتُ مذكرات عديدة كان قد أطلعني عليها البروفسور حيدر عبد الرزاق كمونه، وهو من أبرز العلماء المختصين بهندسة المدن وخريج لينينغراد «بطرسبرغ» .
وكان قد وجهها سابقاً إلى رئاسة الجمهورية، ولاحقاً إلى السيد علي السيستاني رجل الدين المتنفّذ في النجف، بخصوص المحافظة على ما تبقّى من معالم النجف الأثرية ووقف هدمها والعبث بذاكرة المدينة، لكنه لا في المرّة الأولى (خلال العهد السابق) ولا بعد الاحتلال، أخذت مقترحاته بنظر الاعتبار أو استمعت تحذيراته المتكرّرة. وراحت المدينة (النجف وبغداد) وتاريخها وعمارتها تغوص في الأرض، ليحلّ الركام محلها، بزعم إنشاء أبنية حديثة وعصرية، لكنها لا تمّت إلى الحداثة بصلة، بل كانت تشويهاً للذوق وللفن والجمال والعمران لدرجة مريعة. فالنجف التي كانت مركزاً للأديرة المسيحية في مملكة الحيرة وعاصمة الخلافة الإسلامية فيما بعد في عهد خلافة الإمام علي بن أبي طالب وتكنّى بخدّ العذراء والمشهد والغري وغيرها من التسميات، تعرّضت خلال العقود الماضية، ولا سيّما بعد الاحتلال لمحاولات لتشويه معالمها وهدم أبنيتها الأثرية.
وذلك بسبب جهل القائمين عليها وعلى السياسة العامة بأهمية ذلك أو لأغراض ومصالح خاصة. أما بغداد فقد بُنيت في العصر العباسي على يد «أبو جعفر المنصور» وأخذت اسم الزوراء ومدينة السلام، وكانت عاصمة الدولة الإسلامية، بل عاصمة العالم، حيث تتطلّع إليها الأنظار، لجمالها وعمرانها وعلومها وآدابها وفنونها وانفتاحها، ولكن هذه المدينة هي الأخرى تعرضت للتشويه وتغيير المعالم في العهود السابقة، ولا سيّما للإهمال بسبب الحروب والحصار، وبعد الاحتلال لتقطيع أوصالها وتقسيمها إلى مناطق نفوذ.
وبعد أن انصرف كل منّا إلى تفكيره قالت لي سنا وكأنها كانت تقرأ أفكاري: متى نزور متحف الشيوعية؟ وكان لديها المعلومات التفصيلية عنه وعنوانه، فقلتُ لها غداً، وكنت أنا نفسي حريصا على زيارته. والمتحف الذي تصدّرت التعريف به صورة ستالين يحمل عنواناً مثيراً هو: الحلم، الواقع، الكابوس. وقد افتتح بعد انهيار النظام الاشتراكي بعدّة سنوات وفي قلب العاصمة التشيكية بالقرب من منطقة الموستيك الشهيرة، ووجدت خلال زيارته عدداً من المفارقات منها حشود السياح الذين يحرصون على زيارته، علماً بأن العدد الأكبر من الزائرين من أهل البلد أو من الأجانب كان من الشابات والشباب، واسترقت السمع إلى حوارات مثيرة بينهم، ومنهم من حمل كتب كافكا كما كانت تفعل ابنتي سنا، ومنهم من ارتدى فانيلة جيفارا، وشاهدت واحداً منهم يعلّق على صدره صورة ستالين، في حين يزمّ عجوز شفتيه تبرماً، ولا أدري إن كان من الحاضر، أم نستولوجيا للماضي؟