حكاية من أرشيف الماضي المؤلم و المخيف ( من تجربة الجبل 6 )
محمد حسن السعدي
وصلت الى إطراف القرية وأختفيت بين أحراش على نهر جاري للاطمئنان أكثر على الوضع الأمني للقرية قبل الدخول لها ، حركة الناس توحي أنها طبيعية من خلال حركة الرعاة والفلاحين ، والنساء بملابسهن القروية ( الايزيدية ) جيئةً وذهاباً الى النهر يحملن مشاريب الماء على أكتافهن الصلدة , بعد مدة ليست بالقليلة تسللت الى داخل القرية عبر طريق ترابي فرعي محاط بمزارع واسعة ، وأشجار عاليه قاصداً بيت الرفيق أبو آشور لم أزوره في المرات السابقة الا مرة واحدة ليلاً و تركناه بنفس الليلة مع الرفاق الشهيد عامل وأبو آشور ، فليس سهلاً أن تجد البيت وسط أكوام من بيوت الطين المتناثرة في محيط القرية .
لا أعرف أن الطريق الذي مشيته يدلني على بيت أبو آشور , ما رأيت حالي الا أمام عتبة بيتهم .. دخلت البيت حالاً مع الدهشة والترحيب من زوجته ، والصدفة في بيتهم أقرباء ضيوف من بغداد أم وبناتها الثلاثة أحداهن كانت طالبة جامعية في بغداد ودار حوار سياسي بيننا .. وكانوا البنات متعاطفات مع مشروع نضالنا ، أما الأم .. كانت متحفظة و تدردم أحيانا بكلمات لا جدوى من تضحياتنا ، يبدو لي أنها معاصرة تجربة مرة في النضال السياسي , الأحداث التي عصفت بالعراق طيلة العقدين الاخيرين أن العمل السياسي بالعراق صنعة رخيصة لا مبدأ ولا موقف وأنما نفاق وكذب و تدليس ونذالة الى حد العمالة التي تبرر بوجهات النظر , في ليل دامس لا تضيئه الا قذائف التنوير في سماء القرية .. ونحن جالسين على ضوء ( فانوس ) شعلته خافته ، وعويل كلاب القرية ينذر أهالي القرية بشيء حدث أو سيحدث .. كان دخول مفرزة شيوعية الى القرية , وصل الرفاق عامل و أبو آشور الى البيت ولم يتوقعوا وجودي .. في نفس الليلة تسلقنا جبل ( متين ) وفي الصباح كنّا متدثرين بشكوت صغير على سفحه .
في الأشكوت الصغير على سفح الجبل داهمنا التعب والنعاس ولم نحس الا بعد ساعات من نوم طويل وثقيل , في ساعة متأخرة من ظهيرة يوم صيف عراقي ، تحركنا باتجاه مقر الفوج الاول ومركز الإقليم , بعد يومين وصلت الى منطقة ( زيوه ) الفصيل المستقل للتنظيم المدني وأطلعت الرفاق المسؤولين على تطورات الأوضاع في الداخل وحركة المجتمع وسلّمت الرسالة لهم بتفاصيلها ، كانت ضربة موجعة ومباغته تهدم بساعة واحدة كل ما بناء التنظيم الحزبي خلال السنوات التي مرت ، والتضحيات التي قدمت والصعوبات التي ذللت بلم الناس حول الحزب أو على أقل تقدير تعاطفهم معك ، وهذا جرى عبر خرم ( الأبرة ) , لشدة وقساوة النظام في قمع معارضيه وحاجز الخوف في نفوس الناس .
تبين فيما بعد وعبر مصادر مقربة وشهود عيان .. كيف وقعت الكارثة .. ومن المسؤول عنها ؟ , أن الكادر الحزبي محمد ورده ( أبو جيفارا ) , كان من المدعوين لحضور وقائع المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي في نهاية ١٩٨٥ في خيمه نصبت في منطقة ( أرموش السفلى ) في منطقة لولان لهذا الغرض , وبعد أنتهاء أعمال المؤتمر والضجه التي تمت حول نتائجه وسير أعماله بين مؤيد ورافض ومتحفظ وساكت .. بدأت عودة المندوبين الى أماكن سكناهم ومواقع عملهم حاملين في جعبهم ( صندوق أسود ) من الأسئلة والأستفسارات الغير واضحة , تهيأ الشيوعي المقدام أبو جيفارا للعودة الى رفاقه في قرية ( جديدة الشط ) في محافظة ديالى من منطقة ( زيوه ) الى الداخل ، ورفاقه متلهفين بحرارة اللقاء والاطلاع على أعمال المؤتمر ونتائجه , الرفاق العاملين في محلية دهوك الشهيد أبو رؤوف ورفاقه تولوا تأمين طريقه الى مدينة الموصل .. عضو الارتباط الحزبي في الداخل بدل ما يمضي به الى كراج الموصل , دخل به الى مديرية أمن دهوك وسلمه لهم , وأتصل الحزبي المدسوس برفاق المحلية ليطمنئهم عن وصوله بأمان .. وهنا ضاعت الأخبار حول مصيره ؟.
كان لتنظيم محلية دهوك للحزب الشيوعي العراقي ونواحيها رفاقاً في التنظيم المدني , ويبدو لي .. أو كما تأكد لاحقاً من خلال عدة منعطفات ووقائع ، البعض منهم يعملون خط مائل أي مندسين بين صفوفنا ( في الليل معنا وفي النهار مع أجهزة البعث ) , أصبح أبو جيفارا في قبضة أجهزة البعث ، وفي أعتقاد قيادة التنظيم في الجبل أنه في يد أمينه ووصل بسلام الى رفاقه في الداخل ( بغداد ) , ورفاق الداخل يعتقدون أن الرفيق أبو جيفارا ما زال في الجبل ( زيوه ) .. لمواكبة تطورات أعمال المؤتمر الرابع لحزب الشيوعيين العراقيين ونتائجه وهذه ليست الحاله الوحيدة التي مررنا بها وقد وقعت حالات عدة مشابهة لهذه الحالة كلفتنا خسائر كبيرة .
الرفيق عندما يزج الى الداخل ( المدن العراقية ) لا توجد حوله متابعه ميدانية ( تنظيمية ) .. هل هو وصل بسلام أم تعرض الى مكروه وسط الطريق أو بدايته فالأمر سيان ؟ , صمد أبو جيفارا في الزنزانة حسب المعطيات التي عرفت فيما بعد ما تعدى شهراً كاملاً ، ربما ظناً منه .. أن التنظيم أتخذ الإجراءات الاحترازية الازمة بعد معرفتهم باعتقاله من تغير أوكارهم الى الأجراءات التي يجب أن تتخذ في أساليب العمل التنظيمي ( السري ) يبدو لي وللأخرين ، كان التعذيب الذي تعرض له أبو جيفارا فوق المألوف , فأدلى باعترافاته باعتباره من قادة التنظيم فوقعت الكارثة بساعة صفر تمكنت أجهزة البعث من توجيه ضربه مميته وموجعه الى التنظيم .. أنعكست آثاره المخيفة في الشارع العراقي على مزاج الناس وتطلعاتهم نحونا وعلاقتهم القلقة برهبة العمل السياسي في العراق .
بعد أسابيع تهيأت مجدداً للعودة الى بغداد بأفكار وخطط عمل جديدة , تحركت مع الرفيق أبو داوود أحد كوادر محلية الموصل من منطقة ( زيوه ) في بهدينان بإتجاه موقع الفوج الاول ومركز الإقليم .. هنا ألتقيت لأول مرة بالرفيق صباح كنجي ورافقته مع أبو داوود بإتجاه قرى دشت مدينة الموصل كانت مهمتهم هي أن أصل الى قلب مدينة الموصل بسلام ومن هناك أدبر أمري الى العاصمة بغداد , خلال أيام مسيرة الطريق حدث تقارب كبير بيني وبين صباح كنجي وجسور ألفه .. العديد من وجهات النظر ألتقت بيننا حول آلية العمل وتطويرها في الداخل , وحدثني عن تجربته ومواقفه مع رفاق زُج بهم الى الداخل والمصادفات التي عاشها ومر بها ، كانت غزيرة على مدى تجربة السنوات النضالية ، وأستمعت الى رؤيته في آلية وطرق عمل تنظيم الداخل وأمكانية تطويرها حيال أساليب البعث الدموية .