حكاية من أرشيف الماضي المؤلم و المخيف ( من تجربة الجبل 7 )
محمد حسن السعدي
وصلنا على مشارف الطريق العام الذي يربط مدينة الموصل بأقضيتها وقراها .. الأخبار التي تواردت لنا حال وصولنا ، هنالك أستنفار أمني حكومي كبير في المنطقة ، حملة مداهمات ونصب مفارز في الطرق ومخارجها , أضطررنا أن نختفي لأيام في شكوت صغير بسفح جبل ( متين ) موقعه وسط تضاريس شائكة ومعقدة عصي على أي هجوم أو تقدم نحونا من جيش وجاش ( جاش .. هم الأكراد الذين يقاتلون مع قوات النظام العراقي ضد معارضيه ويطلق عليهم النظام أسم فرسان أما نحن نسميهم جاش مختصر من كلمة جحوش أنتقاصاً من أنسانيتهم ).
وبعد الأحداث الدراماتيكية التي أطاحت بالعراق أثر الاحتلال ومصائبه ، قام السيد مسعود البرزاني في ألتفاته تعد سياسية بإمتياز في أحتواء قادة هذه الأفواج رغم العداء التاريخي بالدم والقتل ( أنور وتواته ) مثالاً ، صديقاً مقرباً للرئيس العراقي السابق صدام حسين ، كان يهبط بطائرته في ديوانه بمناطق ( قلعة دزه وبشدر ) التابعة لمحافظة سليمانية .. كان الرفيق صباح كنجي مهيأ للايام الصعبة علبة زيتون كبيرة معتقه .. ثلاثة ليالي محشورين في ذلك الاشكوت في القطع الجبلي وزادنا اليومي بتلك الايام المخيفة ( زيتون ) وكانه هكذا معد لتلك الايام الطارئة كما أكد لي في حديثه الرفيق صباح كنجي .
وبعد تلك اليالي الصعبة تواردت لنار الأخبار بهدوء حذر و مرتقب في المنطقة ، حزمنا علائجنا فوق ظهورنا ، وقد كانت تحوي على بعض أشيائنا الشخصية المهمة والخفيفة الوزن ، مع أول سدول لليل تسللنا باتجاه القرى المحيطة والممتدة بإتجاه مدينة الموصل ، وكانت وجهتنا قرية ( دوغات ) حيث لنا رفاق وعوائل يعيشون بها .. بعد ساعات من نزول الجبل وعبور الشارع العام الذي يربط الموصل بمدنه فقدت حذائي وسط أراضي محروثه حديثاً لساعات أمشي بدونه .. أستغرب الرفيق صباح رغم تلك الأوجاع طيلة مسيرة الليل لم أشكو له بفقدان حذائي تحسباً مني قد يؤخرنا على مواصلة الطريق ويعرضنا بسهولة الى خطورة محتملة ، في النهاية ظللنا الطريق وأخطأنا الهدف وأنهكنا التعب والجوع والعطش .
وبدأت تباشير الصباح تهطل من السماء على المدن والقوى ، أزيز محركات السيارات يخترق ذلك الهدوء الصباحي بحركة دؤوبه بين المدن والقصبات ، وأصوات الرعاة تصدح مع أقدام مواشيهم ، لم يبقى خيار أمام الرفيق صباح الا الاحتماء بنفق معمول في الارض بألواح خشبية ، من الصباح حتى سدول عتمة الليل ، ونحن محشورين في ذلك المربع بلا صوت ولا حركة ولا حتى نفس طبيعي ننتظر سدول عتمة الليل مرة أخرى .
مع هطول أول خيط لعتمة ظلام ، خرجنا من ذلك المربع الخشبي داخل حفرة دائرية بمستوى الارض ضيقة ومحصورة وعادت لنا روحنا الطبيعية من شم الهواء الى التنفس النقي وتحركنا بأتجاه قرية ( دوغات ) , وتسللنا لها عبر أزقتها الضيقة تحت جنح الظلام لا أحد يعكر خطواتك الا عويل الكلاب العالي ، التي تنبه غالباً بحدوث حدث يجري في القرية وحواليها وهذه المرة الاولى التي أتعرف بها على هذه القرية وما زلت أمشي بدون حذاء على أرض مليئة بنتوءات الصخور ، وبسرعة مقاتل وحش ومتمرس يدفع الرفيق صباح كنجي أحد أبواب بيوت القرية بقوة ، وفي لحظات كنا داخل ساحة البيت مع أستقبال حار وحذر من صاحب الدار وزوجته ..
قلت الى الرفيق صباح أذا كانت هناك أمكانية في الصباح ومن وقت بتأمين طريق وصولي الى مدينة الموصل لابد من أن أتهيأ لأزالة الغبار والطين عن الجسم وشعر الرأس الذي بات منفوشاً كأنني خارج تواً من الشماعية ( مستشفى المجانيين ) مستشفى مخصصه لذو العاهات نظام البعث أستغلها لمعاقبة معارضيه في حجزهم بها .
ألتقطت أطراف الحديث رفيقتنا ربة البيت ووضعت حالا قدر ماء تحت شعلة ( البرمز ) , وفي زاوية مزوية من ركن البيت الهاديء قطعة قماش تحجب عنك رؤية الآخرين نفضت عني تلك الأتربة .. وفي جلسة مسائية داخل صالون البيت حول المدفأة وفوقها إبريق الشاي برائحة الهيل .
على ضوء الشموع والفوانيس المغبرة وعلى ضوء الأخبار المتناقلة نستقرء تطورات الوضع العسكري في المنطقة , نمنا بهدوء بعد مسيرة أيام كانت قاسية وخطيرة .
في الصباح نقلت عن طريق التنظيم بسيارة تاكسي الى مدينة الموصل ، وطلبت من الرفيق الدليل أن يركن السيارة جانبا في أحد فروع المدينة ويمشي خلفي لمدة نصف ساعة خوفاً من أكون مراقباً .. درت حول أسواق المدينة ومقاهيها ، بعد أن تأكدت من سلامة وضعي الأمني ، أشرت له بالانصراف .. ذهبت حالاً الى أحد الفنادق وحجزت غرفة وغطت في نوم عميق الى المساء , وفِي الليل ذهبت الى المحطة العالمية وأخذت مكاناً في سيارة أجرة مع أربعة ركاب بأتجاه العاصمة بغداد .
وصلت الى بغداد مع أول بزوغ للفجر من أيام تموز ١٩٨٦ الى محطة ( علاوي الحلة ) , لفت فضولي دبيب حركة الناس جيئة وذهابا ، عسكر ومدنيين ، يتزاحمون على مواقف السيارات بتشبث لتنقلهم الى وحداتهم العسكرية ومراكز عملهم .. أخذت ركناً في زاوية مطعم شعبي حيث رائحة شواء التكه والمعلاك تسيل لغيط لعابك .. بعدها أخذت ركناً في المقهى المجاور متكئاً على مسند أريكة مصنوعة من سعف النخيل .. أراقب بفضول حركة الناس في الشارع ، الكل مسرعاً بإتجاهات معاكسة الى سبيل غايته .. وممن في المقهى يستقرء الوضع السياسي ومجريات الحرب الخطيرة وأستعدادات الهجوم الايراني المرتقب على الأراضي العراقية بين الجارتين الاسلاميتين العدّوتين العراق وأيران .
بعد أن سكنت حركة الناس قليلا ، توجهت الى منطقة ( باب المعظم ) بسيارة أجرة عمومي ومنها ذهبت الى منطقة الراشدية قرية ( الصمود ) بأطراف شمال بغداد .. حيث مكان عملي في ورشة عبد الخالق مطلك الدليمي ( أبو بسيم ) .. أول ما صادفني في نزولي من مصلحة نقل الركاب ( محمد ) .. حسب المعلومات التي عرفتها عنه سابقاً أنه عضو عامل في جهاز الاستخبارات العامة .. ويمتلك في المربع القروي محل يتصدر ركناً مقابيل الشارع العام الذي يربط العاصمة بغداد بمحافظة ديالى ، محل يبيع فيه قطع للسيارات المنوعة للتمويه على دوره أو المهمة الملقاة على عاتقه .. رحب بي ، وقال هاي وينك علي وين الغيبة الطويلة ؟.
علي .. هو الأسم الذي عرفت به في ذلك المربع في مكان العمل .. بررت له أنه والدتي مريضة وحاولت أن أبقى بجانبها بناءاً على طلبها ، لكني شعرت به من خلال ردّة فعله أنه لم يأخذ كلامي على محمل الجد , لكن لا سبيل أخر لي في التحرك السريع والبحث عن مأوى آخر ، فالحذر واليقظة أصبحتا ملزمتان تجاه أي تحرك جديد .
بدأت أحسب خطواتي بدقة متناهية وقت وصولي الى موقع العمل وخروجي بساعات غير منتظمة ، حتى لم أعد أذهب الى العمل بشكل منتظم نوعاً ما .. كنت أقضي ساعات طويلة في شوارع بغداد ومقاهيها ، كنت ألتقي يومياً برفاق وأصدقاء متعاطفين معنا ، الأغلب منهم متردد ويحمل في داخله نيات سيئة وخوف في خوض العمل السياسي ( المعارض ) .
حتى إذا كان بحدود التعاطف أو التعاون ، سياسة البعث الشديدة تجاه معارضيه تاركه بصماتها الفاقعة على معنويات الناس وتفاعلهم مع أي مشروع سياسي … الخوف طاغي على البشر حتى بتفاصيل الحياة اليومية .. حاجز الخوف تارك فعلته على علاقات الناس وطرق معيشتهم وعلاقتهم بالسياسة .