“السياب” في ( أنشودة المطر ) . . الكتاب الذي غير خرائط الشعر العربي
فاروق يوسف
“أتعلمين أي حزن يبعث المطر”
تلك جملة غريبة بمعانيها مستعارة من أكثر قصائد بدر شاكر السياب شهرة “أنشودة المطر” وهي القصيدة التي أصبحت ديوانا، هو الأشهر بين كتب الشاعر الذي اخترع القصيدة العربية الحديثة بأرقى صورها. غرابة معنى تلك الجملة تكمن في أن الشاعر يرى في المطر سببا للحزن وهو ما يناقض المعاني المُشاعة للمطر من حيث كونه نوعا من النعمة التي ينتظرها المزارعون والسياب كان ابنا لعائلة مزارعين. غير أن جملة صادمة أخرى في القصيدة نفسها تفسر ذلك الحزن الذي يذكر ببيت لشاعر عراقي هو الآخر، وهو محمد مهدي الجواهري “أنا عندي من الأسى جبلُ/ يتمشى معي وينتقل” يقول السياب في جملته الموجعة “ما مر عام والعراق ليس فيه جوع”.
من غير أصداء
في يونيو من العام 1954 نشرت مجلة الآداب البيروتية لصاحبها سهيل إدريس قصيدة “أنشودة المطر” وكان السياب قد كتب رسالة قبل ثلاثة أشهر إلى رئيس التحرير يؤكد فيها أنه تردد في إرسال القصيدة منذ عودته قبل أشهر من الكويت. وهو ما يعني أنه كتب قصيدته تلك في الكويت عام 1953. الغريب في الأمر أن الناقد عبد اللطيف شرارة حين كتب مقالا عن قصائد العدد الماضي من الآداب لم يعر قصيدة السياب أي اهتمام، بل انصب اهتمامه على قصيدتيْ “وردة بيضاء” لنازك الملائكة و”نداء الأرض” لفدوى طوقان اللتين نشرتا في العدد نفسه. عام 1960 أصدر السياب في بيروت كتابه الشعري الخامس “أنشودة المطر” وقد سبقه بـ”أزهار ذابلة” عام 1947 و”أساطير” و”حفار القبور” عام 1952 و”المومس العمياء” عام 1954. بعد ذلك الكتاب نشر السياب أربعة كتب هي “المعبد الغريق” عام 1962 و”منزل الأقنان” عام 1963 و”أزهار وأساطير” و”شناشيل ابنة الجلبي” عام 1964، وهناك خمسة كتب شعرية نُشرت بعد وفاته وهي “إقبال” و”قيثارة الريح” و”أعاصير” و”الهدايا” و”فجر السلام”.
غير محظوظ بعراقيته
لم يكن رأي الشاعر محمد مهدي الجواهري إيجابيا بمحاولات تجديد الشعر العربي، بل كان ينظر إليها بشيء من السخرية، غير أنه استثنى من ذلك شعر السياب. وبالرغم من استحسان الجواهري، وقد كان عملاق الشعر العراقي في أربعينات القرن الماضي، شعره فإن السياب لم يكن محظوظا بعراقيته. لقد تصدت لمحاولته التجديدية المنابر الأدبية المكرسة في بلاده بعنف ولولا تبني بيروت من خلال مجلة شعر وقبلها الآداب لشعره لما ذاع صيته ولما تشكلت صورة السياب الذي نعرفه. لقد نبذته الأوساط الأدبية في بغداد ولم تمد له المؤسسات الرسمية يد العون في مرضه. فحين بدأ صراعه مع مرض التصلب العصبي في النخاع الشوكي تبرعت جهات عربية وأجنبية بعلاجه في بيروت ولندن إلى أن انتهت به الحال في المستشفى الأميري في الكويت حيث توفي هناك عام 1964 وهو في الثامنة والثلاثين من عمره. لقد تعرض بدر شاكر السياب أثناء حياته القصيرة لحملات أدبية وسياسية، لم يتعرض لها شخص في التاريخ الأدبي الحديث في العراق. حتى أنه اضطر في نهاية حياته إلى أن يؤلف كتابا في الرد على خصومه السياسيين بعنوان “كنت شيوعيا”. وكان كتابا رديئا لا يليق بشاعر بحجم السياب.
ابن للعاطفة المتطرفة
“أنشودة المطر” هو الكتاب الشعري الأهم لا في تاريخ بدر شاكر السياب الشعري، بل على مستوى الشعر العربي الحديث كله. ذلك لأنه شكل حجر الزاوية للتحول الفني الكبير الذي شهدته القصيدة العربية الحديثة. فهو خلاصة ذلك التحول في أكثر صوره متانة وتماسكا وقوة وصفاء. “عشرة من قصائد السياب يمكن اعتبارها من أهم القصائد العربية التي كُتبت في العصر الحديث” هذا ما كتبه الشاعر السوري أدونيس في مقدمته لمختارات من شعر السياب. وهو اعتراف لن يكون سهلا بالنسبة لشاعر ريادي بحجم أدونيس. معظم تلك القصائد التي أحبها أدونيس كانت منتقاة من ديوان “أنشودة المطر”.
لقد قيل الكثير عن تأثير شعر الشاعرة الإنكليزية أديث ستويل الذي ترجمه السياب إلى العربية عليه. وكان لقراءته لأرض الخراب قصيدة ت. أس. إليوت وقع قوي على طريقة نظره إلى الشعر وتفكيره فيه، غير أن موهبته كانت عظيمة وهي تستنهض روح الأساطير العراقية القديمة لتعينه على فهم الواقع. لقد تعلم السياب من قراءاته الشعر الإنكليزي تقنيات ساعدته في عملية التنقيب بحثا عن الجذر العاطفي الذي يصل بين الواقع والمستويات غير المرئية من الشخصية العراقية، وهو ما جعله قادرا على الاهتداء إلى الروح الأسطورية التي تنطوي عليها العاطفة العراقية التي غالبا ما تتطرف في حضورها المتشظي.
العراق كوكبه الوحيد
وبالرغم من أن هناك اتفاقا بين المهتمين بالشعر على أن ديوان “أنشودة المطر” هو الكتاب الشعري الأهم في مسيرة السياب، فإن هناك من لا يعتبر القصيدة التي اكتسب الكتاب عنوانه منها أهم ما كتبه. لقد ضم الكتاب عددا من روائع السياب، تقف في مقدمتها قصيدته “غريب على الخليج” التي يقول فيها :
“الريح تصرخ بي عراق
والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق”
إلى أن يصل إلى بيته الشهير:
“الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام،
حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق”
نعتبر قصيدة “غريب على الخليج” واحدة من أعظم القصائد العربية في الحنين واللوعة والاشتياق إلى الوطن. استطاع الشاعر من خلالها أن يلخص صفات البلد الذي أحبه ولم يعرف بلدا أجمل منه بالرغم من قسوته بكل ما تبدى من مظاهر تلك القسوة من فقر وشظف وعناء وإهمال وعزل وتهميش. ربما يتخذ البعض من تلك القصيدة درسا في الوطنية، حيث يميز الشاعر بين علاقته بوطنه، وبين ما يقع في ذلك الوطن من أحداث مؤسفة هي من صنع البشر، غير أن القصيدة تحمل شحنة إنسانية غير مقيدة بشروط الوضع البشري. إنها نشيد مطلق يبدو العراق من خلاله البلد الذي خُلق من أجل الشعر والجمال. في الكتاب هناك أيضا قصائد مهمة يعتبرها الكثيرون من غرر الشعر العربي، أذكر منها “النهر والموت” و”جيكور والمدينة” و”بورسعيد”.
لا أحد من شعراء العراق القدامى والمحدثين ينافس بدر شاكر السياب في عراقيته الخالصة والمجردة من أي منفعة شخصية. فالشاعر الذي أحدث زلزالا فريدا من نوعه في تاريخ الثقافة العربية المعاصر لم ينل أي نوع من التكريم والاحترام في وطنه أثناء حياته. لقد نبذته الأوساط السياسية والتجمعات الثقافية على حد سواء. وبالرغم من ذلك فإن شعره يغص بعراقية مطلقة. الأمر لا يتعلق بالوطنية ولا بالسياسة.