د. تحسين رزاق عزيز
كان الأدب المسرحي في الستينيات والسبعينيات في الإتحاد السوفيتي السابق موجهاً بالأساس، كما تدعي السلطات، “الى فهم الجوهر الأخلاقي والروحي والاجتماعي للإنسان السوفيتي الذي يسعى بكل إخلاص لخدمة المُثُل الشيوعية” , لكن الأعمال المسرحية كانت في الحقيقة مملة لأنها لم تخرج عن خطط الحزب وتوجيهاته , ومع هذا حاول الكتّاب المسرحيون بقدر الإمكان سبر أغوار المعين الذي لا ينضب في النفس البشرية، من خلال تناول أحداث أيام الثورة والحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية إضافة الى شؤون الحياة اليومية الاعتيادية للعمال البسطاء وتعقيداتها.
السمة البارزة لأكثر المسرحيات كانت النزعة الواضحة فيها للتوثيق : فالحقائق الواقعية وغير المخفية بين السطور والظاهرة للعيان أقنعت المتفرج بإمكانية الإدراك الفني للوثيقة .
لنأخذ على سبيل المثال مسرحية ميخائيل شاتروف “السادس من تموز” (1964) التي يذكر مؤلفها في العنوان انها “تجربة لدراما وثائقية” تستعرض تاريخ ثورة أكتوبر نفسه بجميع تشابكات ظروفها الدرامية وتتناول شخصيات الثورة كما هي في الواقع. لم يسر الكاتب في طريق الإسترجاع البسيط لتاريخ الأحداث المرتبطة بعصيان اليساريين الاشتراكيين الثوريين في صيف عام 1918 بل استطاع ان يميط اللثام عن منطقهم الداخلي ويكشف البواعث السياسية والنفسية و الإجتماعية لسلوك المشتركين في ذلك العصيان وتمكن من التعبير بشكل مؤثر عن موقفه الشخصي.
يزداد توهج الحدث الدرامي في مسرحية “السادس من تموز” مع ازدياد حدة الصراع الأخلاقي والسياسي بين لينين وسبيريدوفا زعيم الأشتراكيين اليساريين , يظهر الصراع الذي لا يُبَيّن الاختلاف في وجهات النظر السياسية فقط بل الاختلاف في الطباع كذلك، في المشاهد الأولى من المسرحية عندما يلقي لينين وسبيريدونوفا خطابيهما في مسرح البلشوي في المؤتمر الخامس للسوفيتات.
إذ يبدأ سبيردينوفا بالزعيق محاولاً التشهير بالبلاشفة واتهامهم بخيانة الثورة، بينما يقف لينين ليُبيّن بوضوح دقة العمل الثوري ويشرح لأعضاء المؤتمر أهداف سياسة الحكومة السوفيتية , ويسير العمل المسرحي ليؤكد صحة رأي لينين ويحوِّل النص الى وثيقة رسمية تُمَجِّد لينين , فتصور عزيزي القارئ كم يكون مملاً مثل هذا العمل السياسي الوثائقي , لكن الكاتب ميخائيل شاتروف يبتعد عن الوثائقية وسد الأحداث الدقيق في مسرحيته الأخرى “الثلاثون من آب” او (البلاشفة) (1967) كما يقول : “من أجل تكوين صورة أكثر كمالاً لذلك العصر”. ويظل شاتروف محافظاً من الخارج على الميل نحو مبادئ الدراما الوثائقية.
يزداد الحدث في مسرحية “البلاشفة” في غضون عدة ساعات من ليلة 30 آب 1918، عندما جرت محاولة لإغتيال لينين بعد قتل أويتسكي رئيس لجنة الطوارئ وتزايد حدة الأعمال الإرهابية , لكن الكاتب يعمل في هذه المسرحية على إبراز الجانب الفني ولا يركز على حادثة الإغتيال نفسها بل على أثرها في وعي الناس وعلى حل المسائل الأخلاقية والسياسية التي تمثل أساس المفهوم الفني والفكري للمسرحية , وقد تم عرض هذا العمل الفني على خشبة مسرح “المعاصر” في موسكو عام 1968 خاتمة لثلاثية مسرحية تناولت المراحل الأساسية في تاريخ الحركة الثورية في روسيا (سوية مع مسرحيتَيّ “الديسمبريين” للكاتب ليونيد زورين ومسرحية ” الأحرار الشعبيين” لألكسندر سفوبودين).
لا بد هنا من الإشارة الى ان مسرح الستينيات والسبعينيات قد تناول مختلف الإتجاهات الدرامية: كالدراما التاريخية ( “حُصَيّاتٌ على راحة الكف” للكاتب أ. سالينسكي)، والسيرة الذاتية (“أصدقاء وأعوام” للكاتب ليونيد زورين)، والدراما السيكولوجية والحياتية (مسرحيات ف. روزوف وأ. أربوزوف وأ. فولودين وغيرهم) والميلودراما (“الإبن الضائع” لـ أ. أربوزوف) والمأساة الفلسفية (“إنسانٌ اسمى من قدره” لإيفان سلفينسكي , “لا تطلق النار” لـ م. كاريم و”فاوست والموت” لـ أ. ليفادي)، والكوميديا الساخرة (“الناس المندفعون” لفاسيلي شوكشين؛ “كذبة لدائرة ضيقة” لـ أ. سالينسكي و”الرغوة” لـ س. ميخالكوف)، لكن رغم تلك الأعمال المتنوعة ظل المسرح السوفيتي في تلك السنين فقيراً بعطائه.
