د. صبحي ناظم توفيق مِن السذاجة مجرد التصور بأن أخبار «مجزرة كركوك» لم تبلغ ساعة وقوعها إلى «الزعيم قاسم» مساء (14/تموز/1959)، ولكنها ربما لم تصل سوى على شكل (تقارير رسمية) عُرِضَت أمام ناظريه تفيد: (إن مجاميع من التركمان قد تآمروا ضد «الزعيم» ونظّموا حركة شبيهة لمؤامرة «العقيد عبد الوهاب الشوّاف» في «الموصل»، واعتصم مسلّحوهم في «قلعة كركوك» بقيادة عدد من ضباطهم ومتقاعديهم، وأن وحدات الجيش والمقاومة الشعبية والشبيبة الديمقراطية هبّت لوأد هذه المؤامرة الرجعية الرعناء في مهدها). ولكن أقاويل دارت عن كيفية إيصال حقائق المجزرة الدامغة إلى «الزعيم عبد الكريم قاسم»! ومن أول شخص وصل إليه وعرض أمام أنظاره وعلى مسامعه (أكذوبة المؤامرة التركمانية) بحيث غيَّرَ قناعاته حيال الشيوعيين واليساريين وانقلب عليهم بين عشية وضحاها. لقد حاولتُ منذ عقود وفي مناسبات مختلفة استشفاف الحقيقة، وسجّلتُ أحاديث عديدة من أفواه شخصيات بارزة حبيبة على قلوبنا، ولكنها بَدَت متباينة بين بعضها البعض، برغم أن ألوفاً من جيلنا قد عاشوا تلك الأحداث عام (1959) أو كانوا قريبين منها قبل (ستة) عقود مضت، والتي لا يمكن عدّها بعيداً بمنظار التأريخ. لقد لامَني البعض وعاتبني آخرون لدى طرحي هذه الحقائق، فالمترسّخ لديهم -كما حال معظم التركمان- أن «العقيد» (في حينه) «عبد الله عبد الرحمن» هو (الشخص الوحيد) الذي أقدَمَ على هذه الخطوة، بل عاتبني عدد من أقربائه لإيرادي أسماء سواه في هذا الشأن وكتبوا بحقي ما لا أستحقه. ولـمّا كنت قد سجّلتُ وسط يومياتي في حينه حديث «العم عبد الله» إلى جانب أحاديث آخرين كانوا قريبين من ذاته ومستواه، فقد استشعرتُ بإدّعاءات غير مريحة ومفارقات في الوقت والتأريخ يستوجب إيضاحها، لذلك وددتُ سردها ببعض التفصيل كي لا تضيع في مجاهل التأريخ، وليُمسي القارئ الكريم والمتابع العزيز بصورة أوضح عنها ليحكم بنفسه على صحة هذا وذاك : أولاً- حديث العميد «عبد الله عبد الرحمن» هذا الضابط التركماني المخضرم كان برتبة «عقيد» عام (1959) متبوّئاً منصب مدير الإدارة لدى قيادة الفرقة/2 ومقرها في قلب مدينة «كركوك»، قبل أن يترفّع إلى رتبة «زعيم (عميد)» بعدئذ ويُحال على التقاعد عام (1963)، وكنتُ على علم بكونه وسط هذه الأحداث العصيبة. ففي مساء (الخميس-15/تموز/1965) وكنت ضابطاً برتبة «ملازم» في الحرس الجمهوري وحالما أُنتُهِيَ الاحتفاء بالذكرى السنوية السادسة للمجزرة وسط حدائق نادي الإخاء التركماني في «حيّ العيواضية» كالعادة التي سرت منذ تأسيسه مطلع الستينيات فقد دعانا «العميد المتقاعد عبد الله عبد الرحمن» للجلوس في مكتبه، وقتما كان رئيساً مُنتخَباً للهيأة الإدارية لهذا النادي، فقد رجوتـه أن يتكرّم بتنويرنا عن حقائق دوره المسموع في تعريف «الزعيم عبد الكريم قاسم» بأحداث تلكم المجزرة خدمةً للتأريخ. فأجاب أمام أنظار وأسماع جمع من الشخصيات التركمانية . أستذكر من بينهم الآن وعلى سبيل المثال لا الحصر كلاًّ من «الدكتور عبد القادر سليمان، الدكتور رضا محمود دميرجي، المحامي حبيب الهرمزي، السيد جلال النقيب، المهندس جمال خضر، السيد نجم الدين عز الدين، السيد عادل شريف، المذيع نهاد نجيب آوجي»، قد أستطيع إجماله بما يأتي: العميد المتقاعد عبد الله عبد الرحمن رئيس نادي الأخاء التركماني في أواسط الستينيات ولغاية السبعينيات , الدكتور رضا محمود دَميرجي , أحد الحضور لحديث العميد المتقاعد عبد الله عبد الرحمن عن إيصاله حقائق مجزرة كركوك إلى «الزعيم عبد الكريم قاسم». رجل الأعمال السيد عادل شريف , أحد الحضور الآخرين لحديث العميد المتقاعد عبد الله عبد الرحمن عن إيصاله حقائق مجزرة كركوك إلى «الزعيم عبد الكريم قاسم» المحامي «حبيب الهرمزي» أحد الحضور الآخرين أثناء حديث العميد المتقاعد عبد الله عبد الرحمن عن إيصاله حقائق مجزرة كركوك إلى الزعيم «عبد الكريم قاسم» المذيع التركماني «نهاد نجيب آوجي» أحد الحضور لحديث العميد المتقاعد عبد الله عبد الرحمن عن إيصاله حقائق مجزرة كركوك إلى الزعيم «عبد الكريم قاسم». • نعم … كنت برتبة «عقيد» عام (1959) بمنصب مدير إدارة الفرقة/2.
• وقبل حوالي أسبوع من المجزرة وحالمـا تبيَّنَ لنـا أن قائد الفرقة/2 «الزعيم (العميد) الركن داود سلمان الجنابي» سوف لن يعود من «بغداد» إلى «كركوك» لأسباب لم نتعرّف عليها، الزعيم (العميد) الركن داوود سلمان الجنابي قائد الفرقة الثانية في كركوك وقد استدعاه «الزعيم عبد الكريم قاسم» إلى «بغداد» قبل أسبوعين من المجزرة، ولم يًعُد إلى منصبه لأسباب غير معروفة. فقد أصدر الزعيم «عبد الكريم قاسم» أمراً بتكليف مدير إدارة وميرة الفرقة «العقيد محمود عبد الرزاق» ليكون قائداً للفرقة بالوكالة، اعتباراً من يوم (9/تموز/1959) ولحين تعيين قائد جديد للفرقة بالأصالة، بحكم كونه أقدم الضباط في عموم الفرقة. وكل ذلك في وقت كنا نتهيّأ للدخول بأقصى درجات الإنذار قبل أيام من الاحتفاء بالذكرى الأولى لانقلاب (14/تموز/1958) تحسّباً لأي طارئ، أُضيفَ إليها سريان إشاعات عديدة تشير إلى أحداث كبيرة قد تفرض أوزارها على «كركوك» يوم (12/تموز/1959)، والذي مرّ من دون حادث يُذكَر. • بعد نهار حافل من العمل وشدّ الأعصاب منذ صبيحة (14/تموز/1959)، عدتُ عصراً إلى مسكني على مقربة من معسكر «كركوك» لأتمتع بقسط من الراحة بعد عناء طال نحو (24) ساعة، حين انتبهتُ مع المغيب لوابل من النيران الكثيفة من أسلحة رشاشة عَمَّت سماء مدينة «كركوك»، ولمّـا طلبتُ إحضار سيارتي العسكرية سراعاً للوصول إلى مقر الفرقة فإن سائقها لم يستطع الوصول إلى مسكني.
• هاتفتُ «وكيل قائد الفرقة» عن طريق الخط العسكري الخاص فأوضح لي أنه (لا يستطيع حراكاً ونصحني بعدم الوصول إلى مقر الفرقة)!؟ ما أثار علامات استغراب لديّ.
• أسرع إليَّ ضابط كردي صديق يسكن بجواري ليفاجئني بأن هناك إشاعات تفيد بـ(أنني أقود مؤامرة تركمانية ضد «الزعيم عبد الكريم قاسم» يشترك معي فيها ضباط تركمان آخرون ومتقاعدون، وهم معتصمون جميعاً في «قلعة كركوك» فاتحين نيران أسلحة فتاكة نحو المدينة) !
• وفوراً قررتُ المخاطرة بالسفر إلى «بغداد»، وتَنَـكَّرتُ بـ(دشداشة ويشماغ وعقال عربي) كي لا يتعرف عليّ أحد، وسرتُ على قَدَمَيَّ حتى بلغتُ محطة القطار التي كانت هادئة وشبه خالية، فاقتنيتُ بطاقة درجة/3، وأظهرتُ نفسي وكأني (أصمّ وأبكم) قبل أن ينطلق القطار بعدد ضئيل من الركاب في موعده المحدد بالساعة/9 نحو العاصمة.
• وحالمـا وصلتُ «بغداد» صباح اليوم التالي (15/تموز) انطلقتُ بسيارة أجرة إلى وزارة الدفاع بالملابس ذاتها، وبعد إطلاع الاستعلامات على هويتي ورتبتي وضرورة مثولي أمام (الزعيم الأوحد) لأمر ذي أهمية خاصة يجب إطلاع سيادته عليها شخصياً، فقد أوصلوني إلى سكرتيره الشخصي «الرئيس أول (الرائد) الركن جاسم العزاوي».
• وقد علمتُ منه أن تقريراً خاصاً من وزارة الداخلية قد عُرِضَ على (الزعيم) يزعم فيه «مدير أمن كركوك» كوني (متآمراً).
• استغرب «عبد الكريم قاسم» كثيراً لمثولي أمامه بتلك الملابس الشعبية في مكتبه الرسمي، فأجلسني قبالته قبل أن أوضح له: (صدّقني يا سيدي، لا مؤامرة، ولا ضباط تركمان، ولا أسلحة، ولا قلعة، ولا هم يحزنون، بل أن وكيل قائد الفرقة «العقيد محمود» ربما يكون محجوزاً بمكتبه يا سيادة الزعيم.. فهذه كلها أكاذيب وافتراءات، وإذا وددتَ التأكد فاتصل هاتفياً مع كل من ورد اسمه أمامك، وبإمكانك أن تبعث أشخاصاً تثـق بهم لزيارة مسكن أي منهم للتحقق من موقفه).
• قبل كل شيء سارع «عبد الكريم قاسم» لـمُهاتفة قائد القوة الجوية «العقيد الطيار الركن جلال الأوقاتي» طالباً منه أن يجري أحد الطيارين فوراً (استطلاعاً بصرياً) فوق «قلعة كركوك» ليتحقق بناظرَيه عن مصداقية أخبار تفيد بأن أناساً مسلّحين يطلقون نيران أسلحتهم نحو المدينة وفي سمائها.
• بعد ذلك طلب استحصال هاتفَي العقيدَين المتقاعدَين «مصطفى عبد القادر بك، ونور الدين صابر» فوراً ليتحدث معهما شخصياً في مسكنيهما.. فتم ذلك مع «أبي سعاد وأبي ياووز» خلال دقائق، ولكن حديثه معهما كان أشبه بمجرد سلام واطمئنان على أحوالهما ومن دون أن يذكر شيئاً عن جلوسي معه أو يتطرّق لـ(المؤامرة التركمانية) المزعومة.
• وبعد أن أمرني بالمبيت في إحدى غرف «نادي الضباط» كونه على مقربة من مبنى الوزارة، فقد طلب حضوري بمكتبه في ساعة متأخرة من الليل، حيث كان قد تأكـد من صحة كلما أوردته أمامه ظهيرة ذلك اليوم، وأنه كلّف «العقيد عبد الرحمن محمد عارف-آمر كتيبة المدرعات التابعة للفرقة/3 في «جلولاء»- بالتوجه فوراً لإعادة السيطرة على «كركوك» والقبض على كل من كان سبباً في هذه المحنة الكارثية.
ثانياً- حديث «اللواء الركن نايف حمودي ياسين» هذا الرجل المخضرم صاحب الذاكرة العجيبة واليوميات الدقيقة، والذي تدرّج ضابطاً في صنف «الهندسة العسكرية» بالجيش العراقي منذ أواخر الثلاثينيات حتى أضحى برتبة «زعيم (عميد) ركن» مطلع (1959). وقد تواصَلَ بالمناصب العسكرية والتي كان آخرها «مدير الحسابات العسكرية العامة» في عهد «الزعيم عبد الكريم قاسم» ومرتبطاً به بحكم منصبه قبل أن يترفع لرتبة «لواء ركن» مطلع (1963)، ليُمسي بعد إحالته على التقاعد رئيساً للجنة إعمار الشمال في عهد الرئيس «عبد السلام محمد عارف» ثم «متصرفاً/ محافظاً لكركوك» في أواسط الستينيات. اللواء الركن نايف حمودي ياسين مدير الحسابات العسكرية بوزارة الدفاع والمرتبط بحكم المنصب بشخص الزعيم «عبد الكريم قاسم» عام (1959) ولغاية (1963) ولمـا ربطتني به علاقة مصاهرة بعد اقتران ابنه «رافد» بإحدى أخوات زوجتي، لذلك كنتُ ألتقي معه كثيراً وأستأنس في تبادل الأحاديث حول مسيرة الجيش وأحداث العراق المعاصر معه. |