العنف و فريضة اللاعنف
عبد الحسين شعبان
شذرات من تجربة شخصية
واشنطن تسوّغ استخدامها العنف ضد أفغانستان بمواجهة ظاهرة الإرهاب الدولي
وإذا كان الإنسان هو من يقوم بالفعل المادي أو المعنوي لممارسة العنف، لأنه وحده القادر على استخدامه، فإنه أيضاً هو من يقدّم مبرّراته لممارسته، سواء كانت مقنعة أم غير مقنعة، وقد يجد تلك المبررات أو الحجج في الآيديولوجيات والعقائد أو في الأديان والمذاهب أو في نمط الثقافة السائد، تلك التي تحاول أن تُشرْعن العنف وتسوّغه، بحيث تجعل من استخدامه “مقبولاً” أو مبرّراً .
إذاً كيف السبيل للحديث عن اللّاعنف وسط ازدحام المشهد العام المحلي والإقليمي والدولي بالعنف، حيث تطغى الثقافة العنفية على ما سواها تحت عناوين ومسوّغات مختلفة، فهل من الممكن التخلّص من العنف كظاهرة سائدة، بالمطلق أم ثمة مساحة يبقى فيها استخدام العنف مبرّراً حتى وإن كانت محدودة، وإنْ كانت اختلافات بيّنة في تحديد تلك الحدود والمساحات؟
القطيعة مع العنف
مثل غيري ممن تصدّوا للظاهرة أعترف أن مفهوم اللّاعنف هو مفهوم جديد على مجتمعاتنا وثقافاتنا، بل على الثقافة البشرية برمّتها، سواء المتقدّم منها أو المتأخر، خصوصاً وأن هناك تقاليداً موروثة من العنف، بل جبالاً وعرة منه على مرّ التاريخ، قد تحجب أية رؤية جديدة لفلسفة اللّاعنف. فكيف السبيل إلى إحداث القطيعة المعرفية العملانية مع العنف سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي العام؟علماً بأن مفاهيمنا الآيديولوجية تشرّبت بالكثير من العنف، ليس هذا فحسب، بل إن ممارسات باسم الدين وجدت ضالتها في العنف غير المقنن، بل في عنف منفلت، لاسيّما بسيادة فكرة التعصّب، الذي ينجب التطرّف، وهذا الأخير إذا ما تحوّل إلى فعل مادي يؤدي إلى العنف والإرهاب.
والعنف عمل يقصد منه إلحاق الأذى الجسدي والنفسي، المادي والمعنوي بشخص أو مجموعة من الناس بعينهم، أي إن الضحايا سيكونون معروفين للجاني والمرتكب، في حين إن الإرهاب عمل عشوائي يستهدف إحداث أذى ورعب وهلع وخوف في المجتمع للتأثير على الرأي العام، وغالباً ما يكون هدفه سياسياً ويكون الضحية أو الضحايا غير معروفين للجاني أو المرتكب.
وإذا كان العمل العنفي يندرج في إطار القوانين الجنائية، وإن الجزاء والعقاب يخضع للقوانين والأنظمة القضائية المحلية، فإن الإرهاب يندرج في إطار القوانين الدولية، سواءً كانت داخلية أم خارجية، لأنه يمثّل جريمة دولية تستهدف الإبادة الجماعية وهي جرائم ضد الإنسانية، إذا ما استهدفت ديناً أو طائفة أو فئة أو إثنية أو لغة أو سلالة، تحت مبرّرات إقصائية وإلغائية تمييزية.
إن من يفكّر بالقطيعة مع العنف، قد يُتّهم أحياناً بأنه يفعل ذلك لكي يمارس قطيعة مع الدين ذاته، لأن في الأديان نظام عقوبات صارم كما يقولون، خصوصاً وأن الغالب الشائع من التفسيرات تؤدي إلى مثل هذا الاستنتاج الذي هو في حقيقته، مجرد تأويل وقراءة إرادوية سطحية للأديان وقيمها، وحسب هذا التفسير أو التبرير، فالعبرة هي ليس بالنادر الضائع، لاسيّما إذا كانت المصالح والأهواء هي المهيمنة من جانب قوى سائدة تتمترس في مواقعها وتدافع عنها بأسنانها، بل إنها هي التي تهاجم، وبالعنف، من يريد نيل حقوقه أو وقف استغلاله لتحقيق قدر من العدالة والمساواة. إذاً فكيف السبيل لإشاعة ثقافة اللّاعنف، بحيث تصبح مثل هذه الفلسفة سائدة ليس ببعدها الأخلاقي فحسب، بل في جانبها الحقوقي وبُعدها القانوني؟
غاندي والحقيقة
إذا كان اللّاعنف حسب غاندي يعبّر عن حقيقة الأديان، لأنه ليس آيديولوجيا أو عقيدة أو تعاليم دينية، بل هو فلسفة، والفلسفة في أحد تعبيراتها هي “حبّ الحكمة” ، وحتى غاندي لم يقل إن الإنسان يمتلك الحقيقة المطلقة، لأن من يقول ذلك سيكون مستعداً لإلغاء الآخر أو إقصائه أو تهميشه، بزعم امتلاكه للحقيقة، تلك التي تدعوه للدفاع عنها، حتى وإن استخدم العنف ضد خصومها، الذين هم خصومه. وهكذا سيكون العنف وسيلة للدفاع عن حقيقته الخاصة، تلك التي تنتقص من الآخر وتضعه في مصاف العدو أو الخصم الذي ينبغي إخضاعه.
هكذا دافعت الآيديولوجيات عن نفسها عبر قادة أو أحزاب أو جماعات، لأنه دفاع عن فلسفتهم ودينهم وعقيدتهم، ولكن السؤال هل الحقيقة آيديولوجية، أي عقائدية ، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية أو مذهبية أو غير ذلك؟ وإذا كان الجواب نعم حسب دعاة العنف، فإن من يدّعي امتلاك الحقيقة ينفي الآخر، يعزله ، بل ويجهز عليه إذا شعر إن ثمة حقيقة أخرى قد لا تكون آيديولوجية تواجه حقيقته، وهي حقيقة إنسانية ، تتعلّق بالوجود الإنساني، وهي الحقيقة الأهم والأساس، التي يحاول العنفيون إلغاءها أو تعطيلها بفرض آيديولوجيتهم. وهكذا تضيع الحقيقة الوجودية التي لا تعني سوى الاعتراف بالآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية، وهذا بحدّ ذاته تفاعل وتداخل مع فلسفة اللّاعنف، بنقض فلسفة العنف.
إن الزعم بامتلاك الحقيقة يمثّل الخلفية الفكرية للتعصّب، وهذا إذا ما سيطر على الإنسان، فسيدفعه إلى التطرّف، لأن كل متطرّف إنما هو متعصّب، وإذا ما حاول المتطرّف فرض إرادته على الآخر، ففي الغالب الأعم يلتجئ إلى العنف لإرغام الآخر، ويبرّر ذلك بامتلاكه للحقيقة والأفضلية، تلك التي تعطيه ” شرعية” للقيام بفرض عقيدته أو آيديولوجيته أو دينه أو مذهبه أو نمط حياته على الآخر.
العنف وجه آخر للباطل
لعلّ ذلك يعبّر عن جوهر العنف الذي سيكون وجها آخر للباطل، لأن هذا الأخير ينبثق من زعم إدعاء الأفضليات وتمثيل الحقيقة، وهكذا سيكون كل تبرير للعنف بهذا القدر باطلاً، لأنه يريد أن يفرض الرأي بإقصاء الآخر وبالعنف إذا اقتضى الأمر، وهذا ما يجد تبريره عند بشر يزعمون أن الحقيقة معهم حيثما مالوا تميل.
ولكن هل الدعوة إلى اللّاعنف مطلقة؟ يجيب غاندي على ذلك بالنفي ويشرح ذلك بتفسير منطقي وواقعي، فإذا تعذّر أن نحيا بلا عنف بصورة مطلقة، فلا بدّ إذاً من استخدام مقنّن ومحدود للعنف، لأننا في الحياة يستحيل أن نتجنّب كل عنف، كما إن كل شيء نسبي، ولكن الاختلاف حول حدود العنف يتراوح من حالة إلى أخرى، وهذه الحدود ليست متساوية لدى جميع البشر وكل منهم لديه رؤاه وممارساته التطبيقية، حيث أحياناً يتم اللجوء إلى العنف لتجنّب الأسوأ أو لدرء وقوع كارثة أخطر وأشدّ هولاً، وهو ما يُطلق عليه “قانون الضرورة الأسود“.
القاعدة والاستثناء
ونقول بالعربية “الضرورات تبيح المحظورات”، أو”للضرورة أحكام”، وهو قول بليغ على تجاوز القاعدة باتجاه الاستثناء، وهذا ليس سوى تقنين لاستخدام العنف بحدّ الأدنى باسم ” حُكم الضرورة” . وإذا كان ثمة واقعية في الأمر، فإن هذا الاستخدام ينبغي أن يخضع لضوابط وحدود وزمن، خصوصاً وإن هناك حالات تستوجب مثل هذا العنف، كأن يكون “حالة الدفاع عن النفس” لرد الاعتداء مثلاً سواء كان الاعتداء شخصياً أو عاماً، مثل مواجهة احتلال أو مجابهة غزو أو لتحييد عدوانية المعتدي. وحتى في هذه اللحظة علينا أن نتذكّر دائماً، بل نبقي نصب أعيننا إن اللّاعنف هو القاعدة، والعنف هو الاستثناء، أي أننا إذا اضطررنا اللجوء إلى العنف فإنه ليس خياراً، بل أقرب إلى الإكراه، والإرغام، حين تتقدّم الوسائل الأخرى.
وإذا كان مثل هذا الاستخدام للعنف المقنّن ضرورة مرهونة بظرفها التاريخي، فإنها لن تكون مساوية للشرعية، لأنها استثنائية وانتقالية وظرفية، في حين إن الشرعية هي القاعدة، وهذه هي تمثل اللّاعنف. والشرعية تتأتّى دائماً من القاعدة وليس من الاستثناء، فالضرورة تقنّن حرّية خياراتك أحياناً، أي أنك لست حرّاً في اختيار وسيلتك، ولو كان الأمر كذلك، أي لو توفّرت أوضاع وظروف أخرى لاخترت غير تلك الوسيلة، وهكذا سيكون تبرير العنف بالضرورة ليس مساوياً للشرعية، لأنه هذه الضرورة ليست حتمية، وقد تتاح للمرء فرصاً عديدة لتجاوز “ضرورة ” استخدام العنف، إلى عكسها.
الغاية والوسيلة
الأمر له علاقة وثيقة وعضوية بين الغاية بالوسيلة، فالغاية العادلة، حسبما تزعم الآيديولوجيات والعقائد الشمولية والنسقية المغلقة تبرر استخدام جميع الوسائل بما فيها العنف الذي سيكون مشروعاً، لأنها أهدافها عادلة كما تزعم، وهكذا يمكن تعذيب إنسان أو امتهان كرامته أو تعريضه للأذى الجسدي أو النفسي، طالما تزعم الجهة التي تقوم بذلك أن هدفها عادل وبالتالي سيكون مشروعاً ما تقوم به. وإذا كان ذلك على المستوى الشخصي أو السياسي المحدود، ففي العلاقات الدولية هناك امتدادات له ومزاعم مختلفة ومتنوعة.
وتبرّر اليوم القوى المتسيّدة في العلاقات الدولية، استخداماتها للقوة أو التهديد بها أو القيام بأعمال عنف لبسط إرادتها، سواء كان عنفاً مسلحاً باستخدام السلاح والحروب، أم عنفاً اقتصادياً بفرض نظام عقوبات أو عنفاً ثقافياً بمحاولة ضخ وتعميم نمط سائد للثقافة، وازدراء الآخر، ويتم ذلك تحت عناوين ” مكافحة الإرهاب” و”الحرب المشروعة” و”العادلة” و”الوقائية” و”الاستباقية”.وأحياناً وبموجب علاقات القوة والتسيّد يتحوّل الضحايا إلى إرهابيين مثل ما تتهم “إسرائيل” المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، في حين أن الفلسطينيين يمارسون حقهم في الدفاع عن أنفسهم وتقرير مصيرهم ضد محتلّي بلادهم ومن أجل حريتهم واستقلالهم.
وإذا كان كلٌّ يلقي اللوم على الآخر أيضاً، فمن يا ترى يملك الحقيقة وهو ما دفع الأديب الروسي الكبير تولستوي للقول ” إذا كان الجميع يدافع عن نفسه فمن أين يأتي الهجوم”؟، أي من هو البادئ ومن هو المسبّب، ولعلّ هذه الفكرة الواقعية نراها تتكرّر في الحروب الدولية والنزاعات المسلحة والأهلية وحتى بين الجماعات الدينية والكتل السياسية والأشخاص أحياناً، لأن كل فريق يحاول أن يضع الحق إلى جانبه وبالتالي يعطي نفسه شرعية استخدام العنف أو ممارسته بحيث يتم إجبار الآخر على الاستسلام أو الهرب.
وتبرّر الآيديولوجيات العنف بربطه بالعدل أي الزعم بتحقيق العدل بواسطة العنف، وحتى يكون الأمر ذلك منطقياً، فإن القضية التي تستوجب القيام بالعمل العنفي لا بدّ أن تكون “مبرّرة”، لأنها عادلة حسب وجهة النظر هذه، ولأجلها تهون كل القضايا، بما فيها استخدام العنف. أما العدو أو الخصم فلا شكّ فإن قضيته ظالمة أو غير عادلة ، وتلك أسباب ومبرّرات تشمل الخلافات الشخصية والنزاعات الأهلية والمسلّحة والحروب، وهي تتعلّق بالمصالح ومناطق النفوذ والامتيازات ومحاولات الهيمنة وفرض الاستتباع وإملاء الإرادة.
تصوروا مثلاً تبرير داعش ” تنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام” التي تعتبر الجميع خصومها، لأنها هي وحدها الفرقة ” الناجية” وكل ما حولها إنما هو من قبيل البدع، “وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”، وكان خطاب أبو بكر البغدادي في جامع النوري الكبير بالموصل بعد احتلالها بنحو عشرين يوماً أي في 29 حزيران (يونيو) 2014 ، قد اعتبر نفسه مدافعاً عن الإسلام بل خليفة للمسلمين محاولاً إضفاء الشرعية على تصرفاته وسلوكه .
وليس داعش أو تنظيم القاعدة أو أخواتهما هو من يسلك هذا السبيل لوحده، فدولة عظمى مثل الولايات المتحدة برّرت حربها على العراق واحتلاله بفريّة كبرى وهي وجود أسلحة دمار شامل ، إضافة إلى علاقته بالإرهاب الدولي، ومارست ضده حصار دولي جائر لمدة زادت على 12 عاماً، وذلك من أجل تسويغ فعل الحرب والعنف ضده، لأن الهدف “عادل” حسب مبرّراتها، وكانت تعتبر حربها على الفيتنام والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا، بما فيهم عشرات الالاف من الجنود الأمريكان، “عادلة”، لأنها تدافع عن “المدنيّة” و”التحضّر”، بل إن حصارها على كوبا الذي زاد على خمسة عقود من الزمان، إنما هو دفاع عن “العالم الحر” وقيمه، وهكذا كانت وسائل الدعاية والصراع الآيديولوجي ضد الاشتراكية لعقود من الزمان.
لقد برّرت واشنطن استخدامها للعنف بهدف مواجهة ظاهرة الإرهاب الدولي، وحاولت إيجاد مسوّغات “قانونية” و”شرعية” لشنّ حربها على أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، وذلك بعد مهاجمة تنظيم القاعدة برجي التجارة العالمية في نيويورك العام 2001، وتمكّنت من استصدار قرارات دولية تعطيها المبررات لممارسة العنف وهو ما حاولت أن تمرّره من خلال الأمم المتحدة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية الإجرامية، حيث صدرت ثلاثة قرارات هي الأخطر في تاريخ المنظمة الدولية، وأهمها القرار 1373 الصادر في 28 أيلول/سبتمبر 2001، الذي فيه عودة لقواعد القانون الدولي التقليدي التي تجيز ” الحق في الحرب” و”الحق في الغزو” أنّا شاءت الدولة، وإذا شعرت بأي تهديد لمصالحها القومية ومجالها الحيوي.
وقد أعطى هذا القرار للدول الحق في شن الحرب بزعم وجود خطر وشيك أو محتمل، وهي “حرب وقائية” أو “استباقية” ولكن ضد عدو مجهول أو غير معروف إلّا باسم “الإرهاب الدولي”، وهو الذي تحدّده الولايات المتحدة والقوى المتنفذة، ولم يكن ذلك سوى تسهيل مهمتها و”شرعنة” العنف طبقاً لأهدافها “القومية” ومصالحها ” المشروعة .