“آرا خاجادور” و زيارة التاريخ ( 3 )
د. عبد الحسين شعبان
ولكنَ تلك المواقف التي تم اتخاذها باسم الحزب في فترة أقرب إلى انعدام الوزن، وفي ظل تعاقب قيادات غير مؤهلة، ظلّت تلاحق الحزب مثل ظلّه، وعلى الرغم من مراجعة أولية جاء عليها هامشاً في الكونفرنس الثاني (وسبق أن عرضتها في كتابي عن عامر عبد الله: النار ومرارة الأمل)، إلاّ أن التوجّه العام لم يُجرِ تقييماً وظلّ الموقف عائماً وتبريرياً، في حين يحتاج إلى مراجعة، خصوصاً بنقد الموقف السوفييتي، وبالتالي إعادة النظر بموقفنا الذي خسرنا بسببه الكثير، وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فإننا لم نُقدم على عمل نقدي من هذا النوع، بل إن كل نقد كان يصدر، سواء من جانب بعضنا أو من خارجنا، نعتبره نقداً متحاملاً أو تشويهاً أو اصطياداً بالماء العكر، وهو يعبّر عن موقف قومي شوفيني، مكتفين باتهامات جاهزة، ولكن دون مناقشة الموقف الفعلي وسياستنا تلك.
ولا بدّ لي هنا من الاعتراف بأن حزب القيادة المركزية الذي تأسس بانشطار الحزب العام 1967، أجرى مراجعة موضوعية ونقداً رصيناً لموقفنا من القضية الفلسطينية، وهو ما تبلور لاحقاً في ظل قيادة ابراهيم علاوي، بإصدار كرّاس في مطلع السبعينيات بعنوان «الحزب الشيوعي والمسألة الفلسطينية سلسلة دراسات ثورية». وكانت حكومات العهد الملكي قد استشعرت خطر الشيوعية والحزب الشيوعي، الذي كان يحرّك الجماهير بشعاراته وتظاهراته وعلاقاته بالناس وتعبيره عن تطلعاتهم، إضافة إلى القوى الأخرى، فاستغلّت القضية الفلسطينية وفيما بعد الحرب العربية – الإسرائيلية، وحنق القوى القومية على موقف الحزب الشيوعي المرتبك والملتبس، ولا سيّما بعد تأييد الاتحاد السوفييتي قرار تقسيم فلسطين وإقامة دولتين، ومن ثم الاعتراف بإسرائيل عند قيامها في أيار (مايو) العام 1948، فشنّت هجوماً كاسحاً عليه وعلى التنظيمات الشيوعية والماركسية الأخرى، ثم قرّرت بإيحاء من بريطانيا إعدام قادته فهد وحازم وصارم ويهودا صديق وساسون دلاّل، وإيداع القسم الأكبر من قياداته وملاكاته في السجن، لأنها كانت تعرف إن المحرّك الأساسي لرفض اتفاقية بورتسموث المذلّة والمجحفة هو الحزب الشيوعي، تلك الاتفاقية التي وقعها رئيس الوزراء صالح جبر وأرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا.
لم يكن تاريخنا الحالي مفصولاً عن تاريخها الماضي، فمن وحيه نستلهم العِبَر والدروس، فالموقف من الاحتلال ومن الاتفاقية العراقية- الأمريكية، إضافة إلى الموقف من القضايا الوطنية والقومية والاجتماعية، ودور الحزب وسياسيته إزاء آمال الناس وتطلعاتها، وقبل ذلك الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية والتحالفات وأساليب الكفاح، تباينت بشأنها المواقف، وانقسم الحزب بخصوصها، وارتفعت العديد من الأصوات من داخله التي تدعو «إدارته» لعدم التفريط بهوّيته الوطنية أو المساس بها، وهي التي منحته موقعه المتميّز لدى الناس.
ومن القياديين الذين سلكوا سبيل النقد آرا خاجادور الذي أصدر في العام الماضي كتاباً ضمّه خلاصات لانتقاده ومواقفه وتمايزاته عن إدارة الحزب. وحمل هذا الكتاب عنوان: «نبض السنين»، مثلما فعل العديد من القيادات الشيوعية والمثقفين الشيوعيين والماركسيين، خلال العقود الثلاثة ونصف الماضية حين عبّروا عن مواقفهم، سواء برفض المشروع الحربي والسياسي الإيراني والبديل الذي كان يدعو إليه أو التنبّيه لمخاطر التوجّهات القومية الضيقة ونزعات التبعية للقوى الكردية مع مناصرة قضايا الشعب الكردي، ولا سيّما حقه في تقرير المصير، ونقدهم لأساليب الكفاح والتحالفات، إضافة إلى نقد النهج التفريطي، الذي توِّج في المؤتمر الرابع، إضافة إلى الموقف من الاحتلال والدستور ونظام المحاصصة والاتفاقية العراقية – الأمريكية وغيرها.
وبالعودة إلى الموقف من القضية الفلسطينية فيمكن القول إن سلطات العهد الملكي ومن ورائها بريطانيا استغلّت نقطة الضعف بخصوص القضية الفلسطينية تلك، لتصفّي الحساب مع الحزب الشيوعي، الذي كان هو وعموم الحركة الشيوعية، يتّخذ موقفاً سليماً من القضية الفلسطينية، قبل تأييد الاتحاد السوفييتي لقرار التقسيم، وهو الأمر الذي أحرجه كثيراً لاحقاً، بل إلى الآن، خصوصاً وإن تراجعه لم يكن منظّماً أو مقنعاً، وإنما كان تبريرياً وذرائعياً، ومحاولة منه لتكييف موقفه مع الاتحاد السوفييتي، في حين إن موقفه قبل هذا التاريخ كان يعبّر عن ضمير الأمة العربية وطموحاتها وآمالها بمن فيها الشعب الفلسطيني، حيث كانت دعوته صريحة لإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين ورفض قرار التقسيم وأية فكرة تحول دون استقلالها وتحرّرها ووحدتها في إطار نظام ديمقراطي يتعايش فيه الجميع من العرب (مسلمون ومسيحيون) ومن اليهود.
وتدفّق آرا خاجادور يروي بشغف ومتعة بعض ذكرياته، وطلب من حميد برتو أن يدوّن إجاباته على بعض الأسئلة والمحاورات وإنْ لم تتّخذ منحىً مبرمجاً، بل كانت فيها انتقالات سريعة، لكنها مهمة، وحتى قبل أن يبدأ طلبه، أخرج برتو قلمه من جيبه وسحب كرسيه، ليكون قريباً من الطاولة التي يكتب عليها وتناول بضعة أوراق، وبدأ آرا الحديث، وسنا في رحلة ممتعة مع التاريخ، وما لم تفهمه عُدت بعد ذلك لأشرحه لها وأقرّبه منها لتستوعبه، فقد كان بعضه عسيراً على هضمها , وقبل أن أتوقّف عند النقاط التي فتحت الشهية للحوار، وخصوصاً تظاهرة 1 أيار/مايو العام 1959، وموقف الحزب والعلاقة مع الزعيم عبد الكريم قاسم والموقف من الحكم، وهل كان لدى الحزب خطة لاستلام السلطة وإزاحة قاسم وخطة العمل الحاسم؟ أعود لإجلاء الصورة المشوشة والمغرضة أحياناً من القضية الفلسطينية ومن قرار التقسيم. وبالطبع فقد كان هناك موقفان، أحدهما صحيح، وهو موقف الرفيق فهد قبل اعتقاله وهو الرافض لقرار التقسيم، والآخر ملتبس، وهو الذي استشكل فيه الأمر على الشيوعيين، بل وحتى على الرفيق فهد لوصول وثيقة بعنوان «أضواء على القضية الفلسطينية» تؤيد قرار التقسيم وتتبنّى موقف الاتحاد السوفييتي، بحماسة الحزب الشيوعي الفرنسي لها، وهو الأمر الذي لم تتم مراجعته على الصعيد الفكري ونقده، حتى الآن.
وكنتُ في وقت سابق قد سألت آرا خاجادور عن موقف عصبة مكافحة الصهيونية، فقال لي إن موقفها ضد مشروع تقسيم فلسطين، وأكّد ذلك عادل مصري (يعقوب بن مير مصري) سكرتير العصبة، وكنت قد اطّلعت في حينها على كتاب مهم للدكتور عبد اللطيف الراوي، الصادر عن دار وهران والموسوم «عصبة مكافحة الصهيونية في العراق- وثائق» صدر في أواسط الثمانينات وبالفعل فقد جاء في الوثائق: «إن الأخذ بمشروع تقسيم فلسطين إلى أربع مناطق، معناه بالنسبة للعرب، تنازلهم عن حقهم الطبيعي في ثلاث مناطق تؤلف الجزء الأكبر من القطر الفلسطيني، معناه الاعتراف بوجود دولة صهيونية في إحدى هذه المناطق لها حق قبول المهاجرين وتأليف جيش وإنشاء قواعد حربية وما أشبه، دولة يهود خطر على القطر الفلسطيني والبلاد العربية بأسرها». وإذا أردنا الوقوف عند هذا النص الاستشرافي وتحليله، سنرى إن الحزب ومنظماته كان سبّاقاً إلى تلمّس الخطر الحقيقي على الأمة العربية من جانب الصهيونية، الأمر الذي يعني إن الموقف اللاحق بعد بضعة أسابيع أو أشهر بتأييد قرار التقسيم، ليس سوى انقلاباً على ذلك الموقف المبدأي الاستقلالي الاجتهادي، والتحوّل إلى نقيضه، الموقف الذرائعي، التابع والمتلقي للأوامر.