العنف و فريضة اللاعنف ( 4 )
عبد الحسين شعبان
شذرات من تجربة شخصية
حصار العراق بزعم إسقاط نظامه سخرية لمن يحاول تسويغه أو التواطؤ معه
لقد برّر ستالين ملاحقة ضحاياه وقتل الملايين من البشر بـ “الدفاع عن الاشتراكية” ضد الأعداء والامبرياليين والمتواطئين معهم، وشنّ صدام حسين حروبه باسم الحقوق وبهدف منع التآمر على نظامه، ناهيك عن تصفية خصومه، سواء داخل حزبه أو خارجه … كل ذلك تحت مزاعم امتلاك الحقيقة، والغايات الشريفة التي تبرّر استخدام جميع الوسائل حتى وإن كانت غير عادلة، وباختصار إن ذلك يعني “الغاية تبرر الوسيلة” وهو المبدأ الميكافيللي الذي لا يقيم وزناً للإنسان.
وكان كتاب “الأمير” للفيلسوف الإيطالي ميكافيللي قد صدر إبان عصر النهضة، وهو من الكتب التاريخية المهمة في علم السياسة، رغم مضي أكثر من 5 قرون على صدوره، وعلى افتراض وجود غايات عادلة ، فهل يمكن استخدام وسائل غير عادلة لتحقيقها؟ هل يجوز ذلك أخلاقياً وفكرياً وقانونياً أم ثمة اختلالات بنيوية، لاسيّما بين العنف والأخلاق؟ فالعنف يجعل القضية العادلة قضية غير عادلة ووسائل العنف تحطّ من شأن القضايا العادلة. ولكي نصل إلى الغاية العادلة يجب استخدام وسائل عادلة أيضاً، أي الانسجام والتناغم بين الغاية والوسيلة التي يتم السعي لتحقيقها.
وكنتُ دائماً ما أضرب مثلاً بخصوص الحصار المفروض على العراق بالقول: إن الزعم بمحاصرة العراق هو نظامه، إنما هو سخرية لمن يقوم بها ولمن سوّغها أو لمن يحاول التواطؤ معها أو الاقتناع بها، وهو أقرب إلى استهداف طائرة ركاب تقلّ على متنها 380 راكباً، بحجة وجود إرهابي واحد عليها أو الشك بوجوده، أو مثلما هو تجفيف بحيرة كاملة وحرمان السكان من الماء بحجة وجود سمكة خبيثة فيها، ومثل هذا العنف الجماعي هو لا إنساني وهو ينطلق من تبرير الأسلوب الميكافيلي: الغاية تبرر الوسيلة، في حين إن الوسيلة جزء من الغاية، وإذا كانت الغاية غير معروفة بالملموس ، فالوسيلة ملموسة، وبالتالي لا يمكن أن تكون وسيلة غير عادلة تنافح وتكافح من أجل قضية عادلة.
والعلاقة بين الوسيلة والغاية حسب غاندي، الذي كثيراً ما استشهدت به، هي علاقة عضوية متينة ومترابطة ولا انفصام بينهما، لأن الغاية كامنة في الوسيلة، وهي مثل “علاقة البذرة بالشجرة”، والعكس صحيح. وإذا كنّا لا نستطيع التحكّم بالغايات، لاسيّما وهي بعيدة المدى لأنها تتعلّق بالمستقبل، فإننا يمكن أن نسيطر على الوسائل، لأنها جزء من الحاضر، أي إن الغاية تعيش للمستقبل، أما الوسيلة فهي تعيش في الحاضر.
وقد حاول كارل ماركس ورفيقه انجلز تبرير استخدام العنف باستمرار صراع الطبقات، وحين يزول هذا أو يحلّ لصالح انتصار الاشتراكية والشيوعية، فسيزول معه كل عنف، لاسيّما بزوال الظلم وسيادة العدل، أي تبرير استخدام العنف بانتظار المستقبل، ويظل ذلك مجرد وعد، لكن الحقيقة سارت باتجاه آخر، ويختلف اللّاعنفيون عن مبرّري العنف، إنهم لا يعدون أحداً بالمستقبل، إنما وعدهم هو “الآن… الآن… وليس غداً” ، أي إن استعمال الوسيلة هو المقدمة الضرورية للغاية.
العنف يفرض نوعاً من التشابه، بل يجبر على مثل هذا التشابه أحياناً، وذلك بجعل مجموعات سكانية ثقافية دينية أو لغوية أو إثنية أو سلالية تتشابه فيما بينها، وذلك تحت زعم امتلاك الحقيقة وادعاء الأفضليات، إضافة إلى عوامل أخرى، في حين أن أفرادها مختلفون . العنف وحده هو الذي يجبرهم على مثل هذا “التشابه” الإجباري الإكراهي، في حين إن اللّاعنف هو خيار الاختلاف، وهكذا هم البشر مختلفون ومتباينون بحكم تلقائيتهم وعفويتهم وظروف نشأتهم وتكوّنهم، إضافة إلى أوضاع حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
يناقش صديقي الفرنسي فيلسوف اللّاعنف جان ماري مولر فكرة البير كامو الملتبسة عن فلسفة العنف واللّاعنف، تلك التي تردُ مراراً في رواياته ، لاسيّما في حوادث القتل، فيقول إن بعض خصومه أخذوا عليه هروبه إلى مثالية ” اللّاعنف”، على الرغم من أنه لم يدّعه قط، ويعرّج على مقدمة كتبها جان بول سارتر على كتاب فرانتز فانون ” معذبو الأرض” العام 1961 بخصوص عنف الشعوب المستعمرة، فيقدّم نقداً لاذعاً للّاعنفيين بقوله ما أشدّ سذاجتهم فهم “لا ضحايا ولا جلادون” في تلميح واضح إلى ما كتبه كامو.
ويقدّم جان ماري مولر في كتابه ” نزع سلاح الآلهة” عرضاً موسعاً للأديان، ولاسيّما للمسيحية والإسلام من منظور فريضة اللّاعنف، مقدّماً قراءة معمّقة للنص الديني مستنتجاً ” إن الله لا يسمح بانتصار الشر” وإن حصل ذلك فإمّا إنه ليس قديراً، وإمّا إنه ليس طيباً، والله هو الذي يصلّي للبشر لأنه محبّة، وهو مطلق.
والفريضة التي يتحدّث عنها يقصد بها الفضيلة التي تمنح الإنسان هذا القدر من المحبّة والطهرانية والروحانية الإنسانية، وتقرّب البشر من بعضهم، بغض النظر عن الدين أو حتى الإيمان أو التديّن أو اللّاتديّن ، لأن الجميع يمكن أن يجتمعوا في خيمة التعايش والسلام وحب الخير.
هل اللّاعنف مطلق؟
وإذا احتسبنا كامو على اللّاعنفيين، فإنه مثل غيره لا يؤمن بفكرة ” اللّاعنف المطلق”، وإنْ كان يطلّ على بعض أطروحات غاندي بإبداء التقدير له، وهو الآخر كان قد طعن في صحة عدم وجود لاعنف بصورة مطلقة، دون أن يُشرْعِنْ القتل أو ممارسات العنف.
وإذا كان العنف ظاهرة لصيقة بالصراع، وهو في الغالب أحد مخرجاتها أو أبعادها فإنه نوعان: الأول – العنف المباشر، مثل القتل، والتعذيب، والإيذاء الجسدي، والحصار والعقوبات الاقتصادية وغيرها والثاني – ” العنف غير المباشر”، وقد يكون هذا ناعماً مثل التمييز في النوع الاجتماعي (الجندر)، في التعليم، لأسباب تتعلّق بالدين والطائفة أو العرق أو القومية أو اللغة أو اللون أو الأصل الاجتماعي.
والعنف يكون أيضاً بواسطة الاستغلال، لاسيّما باستمرار التفاوت الطبقي بين المتخومين والمحرومين، والأغنياء والفقراء في النظام الاجتماعي أو من خلال استقطابات اجتماعية أو دينية أو عرقية أو جهوية أو غيرها، بما فيها وجود قوانين وتشريعات غير عادلة أو لا تحقق المساواة والتكافؤ في الفرص، وسيادة قيم سلبية مثل عدم التسامح والاستعلاء، والخوف من الاستخدام السلبي للتباين في علاقات القوة وفرض الهيمنة والاستتباع في إطار ازدواجية في المعايير.
وحين يكون العنف الأول ظاهراً، يكون العنف الثاني كامناً أو غير ظاهر، وهذا الأخير يعمل ببطء وتدرّج ، ويسهم في تآكل القيم الإنسانية، وقد يكون أكثر خبثاً من الأول.
وتحدّد الاتجاهات والسياقات والسلوك، العنف وتأثيراته السلبية وكذلك سبل مجابهته بالثقافة النقيضة، فمثلما هناك سلوك سلبي (عنفي) ، هناك سلوك إيجابي (لا عنفي)، سواء كان مرئياً أو غير مرئي، وأمثلة عديدة على السلوك السلبي وسياقاته: التمييز العنصري وإنكار حق تقرير المصير وازدواجية المعايير ، أما اتجاهاته فتتمثّل بالمشاعر والقيم، مثل الخوف، انعدام الثقة والكراهية وغيرها وعكسها تتمثل اتجاهات اللّاعنف، التي ترفض التمييز وتدعو إلى مقاومته سلماً وتعترف بحقوق الغير، خصوصاً إيمانها بالتسامح والمساواة بين البشر والمشترك الإنساني.
ويشمل العنف الثقافي، العنف المباشر وغير المباشر، إضافة إلى الأوجه الرمزية في الثقافة، المتمثلة بالأفكار وتعاليم الدين واللغة والفن وغيرها من العلوم الاقتصادية والتكنولوجية التي تشرْعِنْ العنف، ويرى غالتونغ وهو عالم نرويجي ومؤسس لمعهد بحوث السلام في أوسلو، إن القضاء على العنف المباشر يتم من خلال تغيير السلوك وانتهاءً بالعنف غير المباشر ” البنيوي” لمعالجة التناقضات وانتهاءً بالعنف الثقافي من خلال تغيير الاتجاهات، وكان قد انتقد البلدان الغربية في موقفها من البلدان النامية.
وهناك عنف اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي ونفسي وإعلامي وقانوني وجنسي وأسري وتربوي محلي ودولي، وهناك عنف رمزي وتكنولوجي وعلمي وفني بما فيه أفلام الأكشن والألعاب الاليكترونية.
رموز اللّاعنف
ومن أبرز دعاة اللّاعنف الفيلسوف ديفيد ثورو الأمريكي من أصل فرنسي (1817-1862) الذي كان داعية ضد نظام العبودية، ومحرّضاً على العصيان المدني وضد دفع الضرائب. وكانت تأثيراته كبيرة على دعاة اللّاعنف المعاصرين من تولستوي (1828-1910) وغاندي (1869-1948) ومارتن لوثر كينغ (1929-1968)، خصوصاً وهو أول من وضع اللبنات الأولى لنظرية المقاومة السلمية، أو بلور رؤيته لمناهضة القوانين غير العادلة مؤكداً على الضمير قبل القانون، باعتباره قوة ضبط داخلية وهو المعوّل عليه لأنه هو المنوط به ما يفعله الإنسان.
وإذا ما أضفنا إلى هؤلاء نيلسون مانديلا (1918-2013) الذي ما إن أُفرج عنه في العام 1990 حتى تحوّل إلى داعية للتسامح واللّاعنف والمصالحة الوطنية، وكان قد انتقل من الإيمان بالعنف إلى اللّاعنف بعد أن قضى 27 عاماً في السجن. واستطاع بدعوته الإنسانية تلك وإدارته مفاوضات مع دي كليرك ونجاحه في انتخابات العام 1994 التي أصرّ أن تكون لكل الأعراق والأجناس والانحدارات أن ينهي نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا التي دام فيها أكثر من قرنين من الزمان حيث كانت تتحكم فيه ” الأقلية البيضاء“.
إن غاندي وكنغ ومانديلا لم يكونوا غريبين، كما إن زعاماتهم لم تكن منتجاً غربياً، فهم جزء من مجتمعات عانت من التمييز والاضطهاد وهم من استطاع قيادتها نحو تحقيق أهدافها بالوسائل اللّاعنفية.
ما يشبه الخاتمة
إذا كنتُ قد توصلت إلى اللّاعنف، وجئت إلى فضيلته على دفعات ومراحل، فإن فريضته لم تتكوّن هكذا مرّة واحدة أيضاً. لقد جئناها من مواقع ومنابع مختلفة، بما فيها عنفية أحياناً أو لم تشكّل قطيعة نهائية مع العنف أو لا تزال متردّدة إزاءه، لكن الاهتداء إليه جاء بعد تجارب مريرة عشناها وعانينا منها مثلما عانت منها شعوبنا وأوطاننا. وآن الأوان للبحث عن اللّاعنف لدى كل منّا، وفي تراثنا وثقافتنا، لتعميمه وليصبح هو القاعدة وليس الاستثناء، حتى وإن كنّا لا نستطيع أن نلغي العنف من حياتنا.
وإذا كان لكل منّا صدمته من العنف، فصديقنا جان ماري مولر الفيلسوف الأشهر في العالم المعاصر وزميلنا في جامعة اللّاعنف انتقل إلى فريضة اللّاعنف، حين طُلب منه أن يلتحق بالجيش الفرنسي وليقاتل الشعب الجزائري، المستعمَر والمحتَل والذي ذاق مرارة العسف والعنف طيلة قرن وأكثر من ثلاثة عقود من الزمان، فرفض وامتنع، وفضّل السجن على أن ينخرط في مقاتلة شعب يتطلّع لنيل حريته واستقلاله وحقه في تقرير مصيره، رافضاً كليّاً اللجوء إلى العنف.
هكذا كانت صدمة الجزائر الخطوة الأولى لتحوّله نحو فلسفة اللّاعنف، وقد كرّس لذلك حياته منذ مطلع الستينات من القرن الماضي وحتى اليوم ويعتبر كتابه “نزع سلاح الآلهة” مرجعاً مهماً في فلسفة اللّاعنف، لاسيّما علاقة ذلك بالأديان، وهو مع كتابه التأسيسي ” قاموس اللّاعنف” من الكتب التي لا بدّ من الاطلاع عليها لمن يريد التعرّف على فلسفة اللّاعنف، ويبقى لكل إنسان صدمته من اللّاعنف، سواء حدثت مرّة واحدة أو جاءت على مراحل ودفعات مثلما هي كانت بالنسبة لكاتب السطور.