للروائية ميسلون هادي (جانو أنتِ حكايتي)
ما بقي منّا بعد هذا الدمار
سارة ضاهر
«ثمّة أمرٌ غامض يحدث، أشعر بأن هناك خطأ ما.. ولكني لا أعرف ما هو، وأن هذا الخطأ سيتصحّح من تلقاء نفسه ذات يوم». عبارة جاءت على لسان هاني، أبرز شخصيات رواية «جانو أنت حكايتي» (دار الحكمة لندن)، للروائية ميسلون هادي، صاحبة الماضي الطويل والمتميز في كتابة الرواية والقصة، التي حاكت تساؤلات النفس الإنسانية، بقدر ما حاكَت مجتمعها النابعة منه. ما هو الخطأ؟ مَن ارتكبه؟ تحليلات كثيرة والإجابة برسم كلّ واحد منّا. لكنّ جوابًا واحدًا أصبحت عليه حياة هاني: «أمي ماتت، ووجهي تشوّه بشكل كبير، وأبي يريد الزواج من امرأة أخرى». ليس بعيداً من الحرب العراقية، تدور أحداث الرواية، سواء الحرب الأميركية 2003، أو الحرب الأهلية 2006 – 2007، وعليه كان إطارها المعجمي: حصار، ودمار، وممرّات آمنة وأخرى غير آمنة، وتكرار لمشهد القتل المؤثّر: بدايةً مع الوالدة التي قُتِلَت على حاجز للجيش الأميركي، وانتهاءً بالحبيبة جنان أو «جانو» في ظروف مماثلة حقيقةً أم تخيّلاً.
ولم يكن مشهد قتل الأخت الصغيرة لهاني دهساً بسيارة والدها، عن غير قصد، أقل وقعًا على نفس القارئ. وبين هذه الحادثة وتلك، قصص حب وهجرة. قصص صداقة وجيرة. لم تفلح جميعها في نقل القارئ إلى بر الأمان، حيث يتمكّن من التأّكّد من زمن الرواية ومكانها. هل هو بعد انتهاء المصوّرة الأميركية ريتا سمارت من تصوير الفيلم عن هاني؟ أم خلاله؟ هل هاني في العراق؟ أم تراه في أميركا، نجا بنفسه كما نصحته جارته «تمام»، ويستعرض الذكريات صفحات؟ هل ماتت جنان أم أصيبَت؟ ليس من السهل مسك خيوط الرواية وتقنياتها الأدبية المتعارَف عليها، وليس من السهل أن يكون السرد مستقرًا في ظل الأوضاع الأمنيّة المهتزّة. ربّما يعود هذا التيه إلى رغبة القارئ في معرفة المزيد عن مصير الشخصيات، أو قد نكون دخلنا دوامة حرب العراقيين، وبتنا مثلهم نبحث عن مخرج إلى الضوء، إلى الغد، إلى ما يجيب عن أسئلتنا. الجميع كان ينتظر، بمَن فيهم القارئ. حبكة متميزة للروائيّة ميسلون، تحكّمت بعناصر الرواية على اختلافها، ولّدت لدى القارئ الرغبة في أن يعرف المزيد، وأدخلته الحال التي يشعر بها أبطالها، من تيه وخوف، محرّكة عقارب الزمان: المستقبل والحاضر والماضي، بحرفيّة عالية. فالزمان هو زمان العراق، سواء في العراق أو في لندن أو في أميركا، خاصة مع والد هاني الذي تبقى ساعته تعمل وفقا لتوقيت بغداد.
والمكان هو العراق، هنا وهناك، وأينما حلّ عراقيّ. كذلك الراوي لم يثبت على شخص أو حال، فهاني الذي يمثّل وجهه العراق، بلد جميل شوّهته الحرب، ولم تفلح أبرز المستشفيات الأميركية في إصلاح ما أفسدته حروبها؛ فتحوّل وجهه إلى مجموع رقعات تثبت فشل الحرب وفشل (التصحيح) من أساسه. فعاد هاني من أميركا إلى العراق مشوّها، وكذلك عادت جنان أو جانو من لندن، بحثًا عن وطن كانت غادرته بعد خسارتها لخطيبها وحبيبها علي في الحرب. وخسرا حبّهما، قبل أن يُترجَم، ذلك الحب الصادق الصافي الجميل عملياً. حرب لم تقتصر على العراق، بل سبقه إليها لبنان، ومن بعده سوريا. من هنا، أنّ للسياسة السيطرة العامة على كل المجريات: الحرب، التهجير، التشتّت، وهي تبرهن على انعدام إمكانيّة تطبيع الحياة مع هذا الواقع، خاصّة مع وجوه الشخصيّات الجادة والرسمية التي نقابلها في الرواية. وهذا أمر خطير، يدعونا للتنبّه لما آلت إليه ملامحنا المتبقيّة منّا. وهي تتناسب مع هذا الحدث بأي حال.
بلدان عربية كثيرة، عاش مواطنوها أزمات الحروب وقلقها، ويتجلى ذلك في نتاج كتّابهم الأدبي، وتحديدًا الروائي. رواية أكسبت المجتمع مكانته في التاريخ. فمن هذا الممر الذي نشهده حاليا: صعوبات وتقلبات أحالت الروائية مؤرخة ومحرّرة، لا يمكننا نسيان ما جرى، والواقع وريثه. حتى بات هذا النتاج يشكّل مادّة دسمة لنقاد الأدب الذين يجدون الكثير من أوجه الشبه بين روائيي هذه البلدان، حيث لا تخلو نتاجاتهم من حضور الحرب عامةً أو بتفاصيلها، وما أنتجته من هجرة وتشتّت، إما إلى عواصم الجليد والضباب، أو إلى عرين الوحش الذي دمّر بلادهم، ومزّقها إربا إربا. نكتب أنفسنا، ولا شيء سوى ذلك. نكتب حيوات شكّلت تاريخنا الماضي ووعينا الحاضر وانطباعنا المسبَق عن كل ما سيأتي. أسيرون نحن لسياسات لم نصنعها ولم نفقه، حتى الآن، وبعد كل خسائرنا، دهاليزها. ها هي الرواية، مرة أخرى، تدعونا لنغادر أفكارنا الأولية، وهي تكتب مجتمعها، وتستشرف مستقبل مواطنين أقل ما يُقال عنهم أنهم تائهون نتيجة عبث السلطات بأوطانهم. فماذا سينتج عن هذا التيه؟ ستخبرنا رواية أخرى.