يدخل اسم تولستوي ضمن مناهج الفلسفة وتاريخها في روسيا , جنبا لجنب مع بقية الفلاسفة الروس والاجانب الكبار , ويشّكل اسم تولستوي فصلا مهما وحيويا في تاريخ الفلسفة الروسية بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر , عندما ابتدأت أزمته الروحية (هكذا استقرت هذه التسمية في المصادر الروسية كافة حول تولستوي ) في سبعينات ذلك القرن , و أدّت به الى التفرّغ للكتابات والتأملات الفلسفية , التي ضمتّها بعدئذ اربعة مجلدات باكملها في مؤلفاته الكاملة , ومن بينها كتابه الشهير (الاعتراف) , الذي كتبه في نهاية السبعينات وظهر مطبوعا لاول مرة في جنيف عام 1884 , و طبع الكتاب خارج روسيا كان يعني طبعا , ان تولستوي لم يكن واثقا من امكانية طبعه ونشره عندئذ داخل روسيا نفسها نتيجة للافكار الجديدة والجريئة جدا فيه , رغم ان تولستوي كان اسما كبيرا ومشهورا ومؤثّرا آنذاك , ( لنتذكر كيف ظهرت بعض مؤلفات ادباء روس في اوربا قبل ظهورها في روسيا مثل بعض نتاجات غيرتسين و باسترناك و سولجينيتسن وأخماتوفا و غيرهم… ).
يؤكد تولستوي في كتابه هذا, ان الاعتراف ضروري فعلا , وعلى الانسان الاقرار بالخطايا الشخصية له والاعتراف بها, ولكن امام نفسه فقط , وليس امام اي جهة اخرى مهما كانت ( وهو جانب مهم من جوانب اخرى كثيرة أثار الكنيسة الارثذوكسية الروسية في حينها واصبحت بالتالي ضد الكاتب) . لقد طرح تولستوي في كتابه هذا كل طريق بحثه الروحي والاخلاقي منذ مرحلة شبابه , عندما كان ( عربيدا كما هو معروف ! ) وحتى مرحلة نضوجه الفكري والروحي , وقد حاول تولستوي ان يجد اجابات عن كل ما كان يقلق روحه من اسئلة في العلم والفلسفة بشكل تفصيلي لدرجة , انه قرر ( عدم الذهاب الى الصيد حاملا الاسلحة كي لا يغريه هذا الاسلوب البسيط للتخلص من الحياة ) , اذ ان تولستوي كانت تراوده حتى فكرة الانتحار للتخلص من عبثية الحياة في تلك المرحلة من عمره , معتبرا ان الادب الذي يمارسه لا قيمة له.
لقد كتب تولستوي في كتابه هذا كل الافكار التي كانت تدور في عقله ووجدانه , ويمكن تلخيص ذلك كله في كلمات محددة , وهي ان الحياة غير ممكنة دون البحث عن معناها وجوهرها , وان البحث عن المعنى في الحياة يعني الشك في كل شئ فيها , حتى بالنسبة للايمان , بل انه طرح فكرة اثارت ردود فعل هائلة عندها , وهي , ان الوصول الى الرب يمر عبر الشك به اولا – ( عبر الشك بالرب نحن نصل الى الرب) , وهذا ما قاده في نهاية المطاف الى الابتعاد عن بعض تعاليم الكنيسة , والانفصام عنها , بل و التمرد عليها وعلى تفسيرها لتعاليم الديانة المسيحية وطقوسها و حتى بعض ثوابتها , ولم تصمت الكنيسة طبعا على افكار تولستوي المتمردة هذه, وكان رد فعلها قويا وعنيفا , اذ انها اعلنت رفضها المطلق لافكار تولستوي الفلسفية هذه جملة وتفصيلا , وهو ما أدّى في نهاية المطاف ( عندما توفي تولستوي ) حتى الى رفض الكنيسة الارثذوكسية دفنه وفق الطقوس المسيحية كما هو معروف .
لقد انعكست افكار تولستوي الفلسفية في نتاجات عديدة اخرى له طبعا , بل ان بعض الباحثين وجدوا كثيرا من المقاطع الفلسفية في رواياته وقصصه ورسائله , ونود ان نختتم هذه الملاحظات حول تولستوي فيلسوفا بمقطع من مذكراته , والتي كتبها في مقتبل عمره ( كان عمره آنذاك 27 سنة ليس الا ) , وهي تبين بلا شك سعة خياله و حجم افكاره وانطلاقتها المتناهية , والمقطع هو كما يأتي – ( … الحديث عن القدسية والايمان أدّى بي الى فكرة عظيمة وكبيرة , وانا أشعر باني قادر على تحقيقها وان اكرّس حياتي لها , والفكرة هذه – هي تأسيس دين جديد , ينسجم مع تطور الانسانية , ومع دين المسيح , لكنه منقّى …., دين تطبيقي , لا يمنح الوعود بالنعيم في المستقبل, وانما يخلق النعيم على الارض …) .
لقد عاش تولستوي 82 سنة باكملها , واستطاع ان يؤسس مفهوم التولستوية العالمي ( انظر مقالتنا بعنوان – تولستوي والتولستوية , ومقالتنا بعنوان – غاندي وتولستوي ) , وترك لنا ارثا فكريا ضخما من النتاجات الابداعية الحيوية , والتي لازالت تتعايش وتتفاعل مع الناس في روسيا وخارجها , ولازالت تحتاج الى تأملاتنا و دراساتنا وبحوثنا لسبر أغوارها والغوص في أعماقها واستنباط الدروس والعبر منها , وملاحظاتنا الوجيزة هذه عن جوانبها الفلسفية خير دليل على ذلك.