في مقالته الأخيرة في صحيفة الوطن والذي أجرته غادة عبد الرزاق تحدث عقيل الناصري عن المرحوم عامر عبد الله، تحدث بمصطلحات خاصة به غير ذي دلالة لا لغويا ولا معنويا. ومفاهيم في غير محلها لا توصل للقارئ أي افهام بقدر ما تضيف له الإبهام والتشويش كماهية الزواج وماهيات الصراع “واراسية” الفلسفة وغيرها هذه المصطلحات التي تذكرنا بمخرجي ومنتجي المسلسلات التلفزيونية والمسرحيات العديمة المحتوى والتي يجري التغطية على شحوب المعنى وخواءه بألوان فاقعة وبهرجة الأضواء وصخب الأصوات.
نحن نعرف أن المضمون والصورة إحدى مقولات الجدل الهيغلي (نسبة إلى فكتور هيغل) في المنطق الكبير لهيغل. والمضمون هو المجموع الكلي للعناصر والعمليات التي يتألف منها الشيء. والصورة هي إطار أو هيكل هذا المضمون وهما لا ينفصلان ابدا.
أما الماهية كمفهوم فتشبه مفهوم المضمون لكنها ليست نفسه. بل تمثل ليس المجموع الكلي لجميع للعناصر بل الجانب الرئيسي الباطني الثابت نسبيا من الشيء وهي التي تحدد طبيعة الشيء وجميع جوانبه الأخرى وإذا كانت الصورة تمثل إطار المضمون فإن الظاهر يعبر بشكل مباشر عن الماهية. ولا أدري كيف يتأتى للاقتصادي عقيل الناصري أن يتحدث عن ماهية الزواج ولا يستطيع أن يقدم ولو جملة واحدة عن ماهية النظام الرأسمالي التي يعبر عنها ذلك الظاهر المتجلية في تناقضاته.
والتناقض في حديثه واضح ومتعدد في بداية حديثه عن المرحوم عامر عبد الله معددً بعض من سماته كمثقف متميز وكيف أن ذلك التميز برز بشكل أكبر بعد تموز 58 نتيجة انشغاله في الصراع السياسي مواصلا الحديث… وقد تضخمت لديه الأنا بصورة أكبر. منتقلا بعد جملتين إلى تعداد تلك السمات كامتلاكه للهيبة ولكاريزما وعدم التمنطق كما يتمنطق عقيل الناصري -قدر تعبيره عن جوهر السؤال او الظاهرة بصورة مكثفة وبدرجة عالية من حيث المضمون. وكان ذا معرفة موسوعية عالية في حركة التحرر الوطني العربية حتى أنه كان يلقي محاضرات في المدرسة الحزبية في الاتحاد السوفيتي.
هذه بعض السمات المعرفية والفكرية لعامر عبد الله وانعكاساتها على شخصيته كما ذكرها عقيل، وعقيل الناصري يذكرنا بالشمر بعد قتل الإمام الحسين حين ذهب إلى عبد الله ابن زياد قائلا له:
املأ ركابي فضة أو ذهبا
فقد قتلت الملك المحجبَ
قتلت خير الناس أما وابا
وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فأجابه إذا كان بهذه الرفعة من المكانة والحسب والنسب فلماذا قتلته؟
عبارة عقيل هي ترديد لما يقال ويتردد في مجالس الخمرة والسهر وليس بناء على تشخيص دقيق للمعايشة والمعاشرة والصحبة.
هناك مسألة غاية في الاهمية هي ما استوقفني واضطرني لكتابة هذه الكلمات. وهي قوله أي عقيل: أنه اكتشف مدى التغير في الفكر الفلسفي لعامر خلال حواره معه 1998 أن عامر عبد الله يعتبر أن القانون الماركسي نفي النفي ليس من قوانين المادية الديالكتيكية فيرفضه. والدلالة الثانية لهذا التغير هي نقده للتجربة السوفيتية عبر كتابه مقوضات الاشتراكية، اولا ان عامر عبد الله مفكر يمتلك فهما ومعرفة تستند إلى المنهج الديالكتيكي الهيغلي تسمح له قراءة وتحليل الواقع بصورة عميقة وأقرب إلى الصحة والدقة وهذا ما يفتقده معظم الشيوعيين العراقيين وأغلب الشيوعيين العرب. وإلى الآن لا أعتقد أن هناك من قدم تحليلا للتجربة السوفيتية. رؤية عامر لهذه التجربة ليست جديدة. الجديد هو الكشف عنها والتحدث بها وتقديمها للعلن. للأسف أن عقيل عاش ما يقرب من ربع قرن في الاتحاد السوفيتي ولم يلحظ شيئا من أهم مقوضات ذلك البناء وهو اقتصادي ولم ير أن أهم قوانين السوق (العرض والطلب) قد جمدت بفعل سياسة ستالين الذي غير كل شيء وجمد كل شيء في الاقتصاد والفكر وكشاهد لما اقول أكد ستالين انه لا وجود لقانون فائض القيمة في الاشتراكية – وحور المفاهيم الفلسفية للماركسية.
إن قراءة عامر عبد الله ليست جديدة على الإطلاق وأذكر أنني التقيته عام 85 في موسكو وجرى حديث خفيف عن بؤس الأوضاع هناك فسألني: هل أن ما ينشر في المجلات والصحف للدعاية؟ طبعا هو أجاب من خلال سؤاله.
كذلك عزيز شريف كان ينتقد اعتبار السوفييت انهم على أعتاب البناء الشيوعي، وكان يقول مازحا لقادة الحزب الشيوعي الهنغاري أن السوفييت في مرحلة الاشتراكية المتطورة، يقول يضحك أولئك القادة ويجيبون: نحن الاشتراكية المتطورة.
يقول ابي العلاء المعري:
والنجم تستصغر الأبصار صورته
فالذنب للعين لا للنجم في الصغر.
أما قانون نفي النفي، اولا هو ليس قانون ماركسي ولا يوجد قانون ديالكتيكي واحد أو مقولة واحدة في الديالكتيك أو الجدل ماركسي. لان كل المقولات والقوانين الثلاث الرئيسية وليست – الاراسية – التغيرات الكمية إلى كيفية وقانون وحدة وصراع الأضداد وقانون نفي النفي هي قوانين ومقولات هيجلية مئة بالمئة لأن هيجل هو من اكتشف أغلبها ووضعها في نسق منظم ضمن مقولات متولدة بعضها من بعضها. وهي أساسا موجودة في الطبيعة والحياة والكون. والقول بأن هذا القانون الديالكتيكي ماركسي دليل لا معرفة وفقر في أوليات الماركسية والمنهج الجدلي. لم يقل لا ماركس ولا انجلس ولا لينين ولا بليخانوف ولو مرة واحدة بأن هناك جدل ماركسي.
لقد أخبر ماركس عبر احدى رسائله إلى انجلز انه توقف عن كتابة رأس المال لقراءة جدل هيجل مرة ثانية. وانجلز يسمي جدل هيجل بالملحمة الجدلية.
يقول لينين عن مقولة السببية : أنه على الرغم من طابعها الداخلي المثالي إلا أنها تشير إشارة عميقة إلى الأسباب التاريخية للحوادث فقد وضع هيجل التاريخ وضعا تاما تحت مقولة السببية ثم فهم السببية أعمق واخصب آلاف المرات من فهم الكثرة الغالبة من علماء هذه الأيام.
ويقول: الجدل كما شرحه هيجل يتضمن عنصر النسبية والشك ولكنه لا يمكن أن يرد إليهما.
ويقول انجلز أن القوانين الهيجلية هي التي أتاحت لمندليف من وضع الجدول الدوري الشهير عبر تطبيقه إياها دون ان يشعر.
لقد تبرأ ماركس من الماركسيين الفرنسيين بأن قال قوله الشهير: أن كل ما أعرفه أنني لست ماركسيا.
أما انجلس فقال: أن أغرب النفايات تأتي من هؤلاء الماركسيين.
أما ادعاء عقيل ناصر أن عامر عبد الله لم يعتبر قانون نفي النفي لا يعود للجدل هو قول لا ينم لا عن معرفة بعامر ولا بفكره ولا بأوليات الماركسية.
لأن مفكرا كالمرحوم عامر عبد الله لا يمكن وانا متيقن بالمطلق أن يشطح ويزلق ويهفو هكذا خطأ مميتا. إنه الانتحار لأن قانون نفي النفي يوجد في مملكتي النبات والحيوان وكذلك الطبيعة الجامدة.
قانون نفي النفي هو نفي واحتفاظ انه هدم وتطور. الحياة ليست سوى تجل لهذا القانون.
إن الحبة التي توضع في التربة تنتفي أي تموت لكن ليس قبل أن يتولد منها ما تحتفظ به في جوفها وتنطوي عليه لما ستكونه فتكون النبتة أو الزهرة التي تؤدي إلى الثمرة. هذه هي العملية الديالكتيكية وهي قائمة في الحياة.
فالحبة هي الإيجاب وهي الحد الأول من المثلث الديالكتيكي والذي يطلق عليه هيجل الحد الديالكتيكي. أما النبتة في هذا المثل أو الزهرة فهي الجانب السالب أو التوسط لأنها تتوسط الخطوة الأولى والخطوة الثانية وهي قد سلبت إيجاب الخطوة الأولى أي البذرة فيسميها هيجل الحد الجدلي وهي لحظة أساسية فبدونها لا يكون هناك مثلث جدلي.
أما الثمرة في الخطوة الثالثة في إيجاب أنها عودة إلى الإثبات وهذا الحد يضم الخطوتين السابقتين وهنا تجلت صيرورة الشيء. ويطلق هيجل على هذا الحد الثالث اسم اللحظة الجدلية.
وقل ما شئت. إن ب في الرياضيات موجبة. اما عند وضع علامة ناقص -أمامها نقوم بسلبها حالة الإثبات وعندما نقوم بضرب -ب × -ب تكون النتيجة = ب تربيع.
فقانون نفي النفي قانون أساسي لا يمكن بأي حال أن يلغيه مفكر مثل عامر عبد الله واتمنى من الاخ عقيل الناصري أن يقوم كلامه لأنه كفر في المعرفة وكفر وازراء بالماركسبة والمنهج الجدلي الهيغلي.
إن إطلاق أسماء المفاهيم والمقالات كيفما شاء تهديم للمعرفة وتصحير العقل وقد قال الفيلسوف هيراقليطيس قبل أكثر من 2500 : دافعوا عن عقولكم كما تدافعون عن قلاعكم وحصونكم. وبالمناسبة فإن هيجل قد قال: أن كل ما قاله هيراقليطيس في الجدل مضمن في المنطق الكبير.
يبدو لي جليا أن الأخ عقيل الناصري فهم فهما خاطئا عامر عبد الله قبل 30 سنة فالجدل هو القاعدة التي يقوم عليها فهم ومعرفة عامر والقاعدة التي منها ينطلق في تحليلاته وكتاباته ك رحلة إلى جزيرة الحرية موضوعه القيم عام 77 عن مخاطر الغزو الثقافي لكامب ديفيد والمنشور في جريدة الجبهة، وموضوعه العميق التحليل عام 84 في الثقافة الجديدة عن مساهمة منطقة الخليج العربي في تصدير الرساميل، وموضوعه عن موقف الإسلام من تحرر المرأة، وموضوعه المنشورة في مجلة الطريق اللبنانية عن ديالكتيك التحالف. وكتابه مقوضات الاشتراكية.
تصحيح لما كتبته أمس عن قانون نفي النفي الهيغلي واضلاع المثلث الجدلي والحقيقة كنت في الطائرة عندما كتبت تلك السطور وتبين لي أن هناك خطأ وخلط لأسماء تلك الحدود كما أطلقها هيجل:
فالضلع الأول من المثلث الجدلي وهو الإثبات أو الإيجاب لأن فيه المكنون أي ما يكون يسميه هيغل الحد الجدلي.
أما الحد الثاني النفي أو السالب لأنه ينفي الحد الأول ويسلبه حين انتقاله الى ضده فيسميه هيجل اللحظة الجدلية.
والحد الثالث والذي هو عود إلى الإثبات بعد سلب الحد الثاني أي نفيه والذي بدوره نفى الحد الأول وهنا يكون نفي النفي ويكون حدا جديدا في المثلث وهو ما يسميه هيغل الحركة الجدلية. والحقيقة ان الحركة الجدلية بما انها تشمل الحدود الثلاثة للمثلث فيسمي هيغل تلك السلسلة من المثلثات بالمنهج الجدلي.