ميخائيل نعيمه والادب الروسي
عاش ميخائيل نعيمه 99 سنة باكملها, اذ ولد في القرن التاسع عشر عام 1889 وتوفي في القرن العشرين عام 1988 , وأصدر العشرات من الكتب ذات الموضوعات المختلفة والمتنوعة من قصة ومسرحية ورواية وشعر ومقالات في النقد الادبي والتأملات الفلسفية وعلم الاجتماع والسير الذاتية وغيرها , وذلك لأن ثقافته كانت متنوعة جدا وموسوعية بكل معنى الكلمة . تتناول مقالتنا علاقة ميخائيل نعيمه بروسيا فقط وادبها وفكرها , وتحاول ان تجد جوابا عن سؤال محدد , غالبا ما يدور في اوساطنا الادبية حوله , وهو – هل تأثرت نتاجات نعيمه بالادب الروسي بشكل خاص , والفكر الروسي بشكل عام , وذلك باعتبار روسيا وأدبها هي ( الحب الاول !) بالنسبة لميخائيل نعيمه ؟ .
درس نعيمه في المدارس الروسية , التي كانت منتشرة في فلسطين وسوريا ولبنان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, والتي كانت تنظمها وتشرف عليها الجمعية الارثذوكسية الفلسطينية في روسيا (توقفت هذه المدارس نتيجة للحرب العالمية الاولى وثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917 ) , وهي مدارس دينية تبشيرية مجانية ( مثل حال المدارس الكاثوليكية او البروتستانتية من الدول الغربية) , وكان ضمن مواد تلك المدارس مادة اللغة الروسية طبعا, وعادة ما يرسلون الخريجين المتميزين فيها للدراسة لاحقا في روسيا , وهذا ما حدث بالنسبة لميخائيل نعيمه ايضا , اذ تم ارساله للدراسة في منطقة بولتافا في اوكرانيا , والتي كانت ضمن الامبراطورية الروسية , حيث درس نعيمه في (السيمناريا الروحية) خمس سنوات ( حتى عام 1911), و(السيمناريا الروحية) هذه هي مدرسة عليا دينية أرثذوكسية كانت موجودة في بولتافا , وترك روسيا وسافر الى امريكا رأسا, حيث عاش من عام 1911 الى عام 1932 , واكتسب هناك الجنسية الامريكية , ودرس في كلية القانون وتخرّج فيها , وبدأ نشاطه الادبي من امريكا عام 1914, وهذا كله يعني , ان نعيمه وصل الى روسيا عندما كان صبيا عمره 16 سنة ليس الا , وتركها بعمر21 – 22 سنة , وانه التحق بالجامعة في امريكا بعد دراسته بروسيا , ولكن بعض المصادر تشير , الى انه درس في ( جامعة بولتافا ! ), وانه اطلع هناك على نتاجات الادباء الروس ومجمل الادب الروسي, وكل ذلك طبعا , معلومات غير دقيقة , اذ لم تكن هذه جامعة بالمعنى العلمي المتعارف عليه عالميا .
لا توجد لدينا معلومات تفصيلية عن طبيعة المناهج ومفرداتها في هذه المدرسة الدينية الارثذوكسية العليا, التي درس فيها نعيمه , الا ان اسمها يدل بلا شك ان الدراسة ومفرداتها كانت في اطار المفاهيم الدينية من وجهة النظر الارثذوكسية , وهناك مصادر تتحدث ان نعيمة لم يكمل دراسته هناك بسبب حب فاشل مع امرأة روسية متزوجة , وان مجلس المدرسة الدينية هذه رفض استمراره بالدراسة , وكل هذه النقاط تقتضي التقصّي والتدقيق في سيرة حياة نعيمه حتما . لقد كتب نعيمه في كتابه الذي يحمل عنوانا طريفا – ( أبعد من موسكو ومن واشنطن) ما يأتي- ( …ومن شعر بوشكين وليرمونتوف ونكراسوف أطللت على الكآبة العميقة في النفس الروسية , ومن روايات تورغينيف استطعت ان ادخل قصور الشرفاء , اما بيلينسكي – سيّد النقاد الروس بلا منازع – فقد كشف لي عن مواطن الصدق والخير والجمال في العمل الادبي , وماذا أقول عن تشيخوف – سيّد القصاصين الروس وغير الروس ….) ( المجموعة الكاملة / بيروت / مجلد 6 / 1978 / ص 209 ) , اما عن تولستوي , فقد كتب نعيمه ما يأتي في كتابه ( الغربال الجديد ) – ( …عظيم هو تولستوي لانه مثّل في شخصه , وفي أدبه , وفي حياته طبيعة الشعب الذي أنجبه ..وسيبقى عظيما لانه كاتب عظيم , ولانه حاول ان يحيا حياة العظماء من المصلحين والانبياء ..) ( المجموعة الكاملة / بيروت / مجلد 7 / 1979 / ص 375 ).
ان هذه الاستشهادات التي اوردناها ( والتي لا تتحمل طبيعة المقالة استشهادات كثيرة اخرى مماثلة موجودة في نتاجات نعيمه ) حول الادب الروسي صحيحة ودقيقة وموضوعية بلا ادنى شك , وهي تعني – فيما تعنيه – ان ميخائيل نعيمه قد درس الادب الروسي بعمق ومن مصادره الاصيلة, وانه واحد من الادباء العرب القلائل الذين يعرفون خصائص هذا الادب واهميته وقيمته , الا ان هذا لا يعني بتاتا , ان نتاجاته متأثرة به كما يقول البعض من الباحثين العرب , ولهذا , فان الجواب عن السؤال الذي طرحناه في بداية المقالة يصبح واضحا .
لقد اختط ميخائيل نعيمه اسلوبه وموضوعاته ومكانته في الادب العربي الحديث بنفسه ونتيجة لعبقريته الذاتية ومواهبه , بل انه حاول طرح نفسه عالميا ( يشير البعض الى رغبته الشديدة والكامنة في اعماقه للوصول الى مكانة رفيقه جبران خليل جبران ! ولكن هذا الشئ يتطلب الاثبات طبعا وبشكل موضوعي ودقيق ) .
نختتم مقالتنا هذه بالاشارة الى خبر يكاد ان يكون مجهولا للقراء العرب , وهو اقامة تمثال نصفي لميخائيل نعيمه في بولتافا باوكراينا عام 2011 , وفي المكان الذي درس فيه هناك , والذي تحوّل الان الى ألاكاديمية الزراعية , وهو اول تمثال له خارج وطنه لبنان .