قدّم المرحوم العلّامة طه باقر لنا – نحن العراقيين – ترجمة (كلكامش) قبل عشرات السنين , وارتبط اسم طه باقر منذ لملحمة ذلك الحين ولحد الان في وعينا باسم بطل تلك الملحمة , والذي كتبه طه باقر هكذا – (كلكامش) بالكاف .
تذكرت ذلك وانا اود ان اتحدث عن الكتب الروسية حول هذه الملحمة الفريدة والرائعة في تاريخنا الرافديني وتاريخ البشرية ايضا، واحترت كيف اكتب اسم الملحمة وبطلها ، هل اكتبه (بالكاف) كما جاء عند استاذنا طه باقر , ام اكتبه ( بالقاف ) كما جاء عند استاذ عراقي كبير آخر هو المرحوم عبد الحق فاضل, ام اكتبه (بالجيم) كما استقرت كتابته في معظم المصادر العربية ؟ وقررت اخيرا كتابته بالجيم (على وفق اللفظ المصري لحرف الجيم هذا) لانه الاقرب الى كل المصادر العربية والاوربية ايضا، واعتذر لاستاذي عالم الآثار العراقي الكبير طه باقر , والذي يبقى رائدا لنا جميعا في مضمون عمله التاريخي العلمي الكبير ذاك , واعتذر لاستاذنا عبد الحق فاضل , الرائد الكبير الآخر في دنيا الترجمة و الفارس في عالم اللغة العربية وآدابها .
ونعود الى جلجامش وملحمته بالروسية. قام الشاعر الروسي غوميليوف بترجمة نص هذه الملحمة عام 1919 عن الفرنسية ( انظر مقالتنا بعنوان – غوميليوف الشاعر الروسي المخضرم ) , وغوميليوف هو شاعر ومنظّر روسي كبير أعدمته السلطة السوفيتية عام 1921 , وبقيت محاولته الترجمية تلك شاهدا على عبقريته شاعرا ومترجما في تاريخ الادب الروسي , الا ان النقد الادبي الروسي لاحقا لم يتناول طبعا اعمال هذا الشاعر والمترجم بالبحث والدراسة بعد اعدامه , بل وانعكس هذا الموقف سلبا حتى على زوجته الشاعرة آنّا أخماتوفا وابنه الباحث و المؤرخ ليف غوميليوف ( ولا مجال هنا للحديث عنهما ), وهكذا بقيت ملحمة جلجامش منسية بترجمته , على الرغم من انها كانت محاولة رائدة في تاريخ روسيا ومسيرتها الفكرية , وبقيت كذلك منسية لحد الان , رغم عودة النقد الادبي الروسي للكتابة عن غوميليوف في روسيا الحديثة , وربما يعود السبب في كون ترجمته ليست كاملة اولا , وثانيا لوجود بعض الاخطاء هنا وهناك و حتى اضافات كتبها غوميليوف نفسه ( واشار هو نفسه اليها كي يجعل النص قريبا من القارئ ومفهوما له ) , و من المؤكد ايضا ان السبب يعود ايضا لظهور ترجمة اخرى بالروسية عام 1961 عن الاكدية مباشرة, والتي قام بها دياكونوف وصدرت في كتاب رائع الاخراج مع دراسة لتلك الملحمة وهوامش غنية جدا حولها . ان صدور هذه الترجمة في عام 1961 يعني ايضا، ان الكلام عن غوميليوف كان لا يزال (غير مرغوبا به!) رغم بعض الكتابات هنا وهناك حوله، وهكذا اكتسحت ترجمة دياكونوف عن الاكدية ( ان صح التعبير ) ترجمة غوميليوف عن الفرنسية, والتي اصبحت الان تمتلك اهمية تاريخية ليس الا باعتبارها اول نص بالروسية للملحمة رغم كونها غير متكاملة كما اشرنا آنفا . هناك اسم آخر في تاريخ ترجمة جلجامش بالروسية وهو شليبكو , الذي انهى ترجمتة للملحمة عام 1920 , وكان من المفروض ان تنشر , ولكن ظروف عشرينات السلطة السوفيتية حالت دون ذلك , ولم تظهر هذه الترجمة الا عام 1987 , ولم تكن كاملة , وظهرت كاملة عام 1994 ليس الا , وفي كل الاحوال بقيت ترجمة دياكونوف في صدارة كل الترجمات ( اعيد طبعها عام 1973 ) لدرجة , ان معهد الثقافات الشرقية القديمة في جامعة الدراسات الانسانية الحكومية قد أصدر عام 2012 كتابا بعنوان – (محاولة ترميم ترجمة دياكونوف) , وذلك من قبل مجموعة متخصصين في قسم تاريخ وآداب الشرق الاوسط القديم في الجامعة المذكورة , وهي محاولة فريدة في تاريخ نشر الكتب او اعادة طبعها في روسيا , وتدلّ بلا شك على اهمية هذه الترجمة في الاوساط الثقافية الروسية منذ صدورها في الاتحاد السوفيتي آنذاك , ولحد الان في روسيا الاتحادية اليوم .
اما الجديد في هذا المجال , فهو كتاب صدر عام 2015 من تأليف يميليانوف ( وهو عالم متخصص في علم السومريات ) , وجاء ضمن سلسلة مشهورة جدا من الكتب عنوانها – ( حياة العظماء ) ( الترجمة الحرفية لهذه السلسلة هي – حياة الناس الرائعين, وهي سلسلة كتب بطباعة فخمة وتحتوي على العديد من الصور الملونة , والتي تصدر منذ زمن الاتحاد السوفيتي واستمرت دون انقطاع لحد الان ) . يقع كتاب يميليانوف في( 358) صفحة من القطع المتوسط , وقد تم طبع (3000 ) نسخة منه , وجاء باخراج مدهش الجمال ابتداء من غلافه الرائع الذي يحمل ثلاث صور لجلجامش وزقورة اور الخالدة.
لا يمكن بتاتا ايجاز محتوى هذا الكتاب المهم , الا اننا نحاول هنا في ختام عرضنا السريع ان نقدم للقارئ بعض الكلمات التي جاءت في تقديم هذا الكتاب , وهى كما يأتي –
اذا ما وضعنا كل الكتب التي اصدرتها هذه السلسلة، فان كتاب جلجامش يجب ان يحمل الرقم الاول , اذ ان بطل هذا الكتاب هو الاول في مسيرة الانسانية , فهو اول قائد سياسي , واول بطل محارب في المعارك , واول البناة , واول انسان اراد ان يتغلب على مصيره وعلى الموت , واول بطل ثقافي أبقى قصته وسيرته الذاتية للاجيال القادمة … وما أروع هذه الخلاصة , وما اعمقها !