متى وكيف فقد الشيوعي العراقي الإحساس بظلم وخطر أميركا إسرائيل؟
الانتفاضتين القويتين نسبيا داخل الحزب الشيوعي التي تلت تحالف الحزب مع الصدريين في “سائرون” أولاً، والثانية الأقوى نتيجة اعلان الصدر تحالفه مع “الفتح” مؤشر اثار عندي بعض الدهشة. تسببت الأولى في انقسام حاد داخل القيادة لم تعرفه منذ عقود، أما الثانية فطال الانقسام الأعضاء الصغار والمؤيدين.
وليس مصدر دهشتي عدم وجود سبب لهذه الانتفاضتين او الاحتجاجين داخل الحزب، بل العكس. مصدر الدهشة هو ان الحزب ومؤيديه يتصرفون هنا بطريقة طبيعية كما ينتظر من حزب له مبادئه وأهدافه الواضحة والتي لا تنسجم كثيرا مع تلك التحالفات. دهشتي وتساؤلي هما: لماذا لم نجد مثل هذا الاحتجاج حين تحالف الحزب مع أياد علاوي، العميل المعلن عن نفسه لستة او سبعات مخابرات دولية – والتي لا شك ان إسرائيل واحدة منها، وعضو البعث المشارك في عمليات التعذيب للشيوعيين ذاتهم؟
وإن كان هذا التحالف قد اثار في وقته بعض اللغط، فأن التحالف مع العميل التالي لإسرائيل ورمزها في العراق، مثال الآلوسي، لم يثر أي إشكال او حتى همس ممن كان يدعم الحزب، دع عنك قيادته. كان الشيوعيون يتحدثون عنه كـ “أبو الشهيدين”!!
كمؤيد سابق للحزب وواضع بعض الأمل فيه، اصبت بخيبة امل شديدة من التحالف الأول، وتصورت ان بلادة مبدئية وقصر نظر وبراغماتية خطرة قد سيطرت على قيادة الحزب فأعمتها عما يعني التحالف مع عميل للسي آي أي وغيرها. أنا الذي قرأت كيف ان هذه المنظمة قادت كل الاجرام العالمي ضد أي حزب شيوعي في العالم، بل ضد أي حركة تهدف الى الاستقلال في القرار السياسي والاقتصادي، لم يكن لدي مفر من تصور أن هذا التحالف جريمة كبرى يرتكبها الحزب ضد نفسه وإلغاء لوجوده، وأنه إذا دافع عن ابسط أهدافه فسيكون ضحية مذبحة سهلة للغاية.
تساءلت كيف اختفى ذلك التاريخ المخيف من رؤوس الشيوعيين فجأة وفقدوا حذرهم التقليدي المتراكم من عقود من الاضطهاد والصراع والعمل السري، ليلقوا بأنفسهم في أحضان السي آي أي؟ هل هو اختراق للقيادة؟ لا شك ان هناك اختراق للقيادة، لأن قراءة التاريخ تقول ان من الصعب جدا ان يفلت أي حزب شيوعي او يساري من اختراق لقيادته، لكن ان يكون الاختراق من القوة بحيث يشكل غالبية فهو أمر مدهش وغريب.
وماذا عن الشيوعيين الصغار والمؤيدين؟ ألم يقرئوا يوما تاريخ حزبهم وتاريخ الأحزاب الشيوعية الأخرى؟ كيف اقتنعوا بالحجج الباهتة التي ساقتها القيادة لتبرير الموقف؟
كان ذلك التحالف صدمة كبيرة وصحوة بان الأمور ليست كما أتصور، وإن لم أكن طموحا في تصوري أصلا.
أما التحالف مع “مثال الآلوسي” ووضعه في مكان متقدم من ذلك التحالف فقد كان القشة التي قصمت ظهر جملي. فالقضية لم تعد غباءً سياسيا وضعف نفسي فقط، بل نهاية أي كلام عن حزب شيوعي وتحوله بشكل صريح الى الخندق المقابل. ولم تكن هناك حتى فرصة لتفسير براغماتي، مهما كان لا أخلاقيا، لهذا التحالف. فمثال الآلوسي، على عكس اياد علاوي، كان قد فشل في الحصول حتى على مقعد واحد في الانتخابات السابقة، فليس هناك من كلام عن حاجة الحزب الى اصواته لإكمال أصوات مقعد يتيم قد يحصل عليه الحزب بهذه الطريقة البائسة! وإذا كان هناك فرصة لتبرير أبله بأن علاوي رجل اميركا وأميركا تحتل البلاد “كأمر واقع” فلم يكن هناك حتى مثل هذه الفرصة لتبرير هذا الموقف المثير للاشمئزاز والغضب من الانضمام الى مثال الآلوسي!
كانت النتيجة ان هذا الرجل، الذي لا يذكر له سوى زياراته إلى مسؤوليه في تل ابيب، وتقديم نفسه وسمعته وسمعة عائلته وبلده اضحية في طريق التطبيع مع إسرائيل، لم يظهر في أي مناسبة أو أي تسجيل إلا بشكل مثير للتقزز والاشمئزاز في انبطاحه لكل ما هو امريكي وخاصة ترمب، وكان دائما مداحاً مثير للتقيؤ لمسعود البرزاني، حاله حال زميله الآخر الذي تم رفعه الى البرلمان بأصوات هذا التحالف، فائق الشيخ علي، والذي يثير الخجل لدى أي انسان يستمع اليه.
في مناقشاتي مع العديد من الشيوعيين – واقصد هنا المنتمين للحزب على وجه التحديد، لم اشعر بوجود أي اعتراض على هؤلاء! فأين وكيف ومتى فقد هؤلاء الشيوعيون احساسهم بالظلم والخطر الإسرائيلي والامريكي؟ هل هو موقع “الحوار المتمدن” الذي شخصته منذ سنوات كموقع إسرائيلي بحت – منذ العدوان على لبنان 2006 والحرب على غزة 2008، حيث وقف الموقع بشكل واضح تماما مع إسرائيل ومع من يحظى برضا إسرائيل من العرب، وانهى الموقع الشك، بإعلانه تلفون الموساد لمن يعرف اية معلومات عن الجندي الإسرائيلي الأسير شاليط! هذا الموقع كان قد صمم حسب ما لاحظت نحو هدفين: الأول تحويل بوصلة العداء والخطر، من اميركا وإسرائيل إلى الإسلام وخاصة إيران، وجعل هذا العداء تهويشياً وليس جدليا قدر الإمكان. والهدف الثاني هو الإساءة إلى مبادئ الشيوعية واليسار تحت حجة “تطويرها”. وقد كان للموقع كتابه المتخصصين في هذين الاتجاهين.
يبدو لي ان هذا الموقع قد أدى دوره بقيادة رزكار الذي صار يحظى باحترام مميز داخل الحزب الشيوعي واعضاءه، لكن الامر لم يكن يقتصر على ذلك، فالإعلام العراقي قلما يأتي بخبر عن عدوان إسرائيلي دع عنك تحليل يكشف استمرار خطرها وتزايده. في الوقت الذي يمتلئ بالأكاذيب والمبالغات فيما يتعلق بالإسلاميين وإيران بالذات، وضد الفلسطينيين بشكل محدد.
نعم ان الشيوعيون هم في النهاية عراقيين يتعرضون لما يتعرض له العراقيون من اعلام شديد القوة والتضليل، لكنني افترضت أنهم، باعتبارهم الجزء الأكثر ثقافة أولا، والأكثر تعرضا في تاريخه للحقائق المرة في التاريخ، سيكون الجزء الأكثر مناعة من هذا التضليل. لكني رأيت لدهشتي أن الحزب من الناحية العملية لم يكن لديه أي اعتراض حقيقي على هذين الخطرين التقليديين له! ولا يذكر أعضاء الحزب أي منهما إلا إذا اضطر اضطراراً حين يحرج. وبقيت قيادة الحزب تتحرج بشدة من تسمية الاحتلال باسمه، بل تفضل كلمة “تغيير” أو “سقوط النظام”، حتى بعد ان اعتراف الأمريكان رسميا بأنهم يحتلون العراق!
لقد كان التفسير الذي يقدم أحيانا لهذا الخنوع المدهش، هو التعب والاستسلام للواقع المر الذي وجد الحزب واعضاءه أنفسهم فيه، فلم يعودوا يعرفون كلمة “لا”. وكان تساؤلي لماذا لا يخرجون من اللعبة إذن بدلا من الوقوف في الخندق المعادي للوطن، والتعاون مع اشد وأخطر اعدائه؟
مناقشاتي مع الشيوعيين ومؤيديهم تكشف لي أنهم لا يفهمون وجود نفور حقيقي من إسرائيل وأميركا لدى من يناقشهم، ويفترضون بأن من ينتقدهم على موقفهم منهما، إنما هو “حجة” وأنه لا بد أن يكون “مدفوع” من جهة ما (الأحزاب الإسلامية او أيران) أو انه “يكره” الحزب الخ من التفسيرات الباهتة. فهم لا يتخيلون كما يبدو وجود انسان طبيعي يمكن ان يكون من اهدافه التخلص من احتلال بلاده وحمايتها ممن يعلن عداءه لها ليل نهار! إن وجود المحتجين على سياسات إسرائيل وأميركا في العالم، حتى من قبل شعوب لا تحتلها اميركا ومن قبل الشعب الأمريكي وبعض الإسرائيليين أنفسهم، لا تكفي لإثارة إحساس بالخطأ في موقف الشيوعي من هذا الموضوع!
وحتى لو فرضنا انهم تركوا المبادئ، وكانوا يبغون سياسة “واقعية” تهدف إلى تجنب الصراع وإقامة الصداقات مع الأعداء، فهو الطريق الخطأ. لقد بينت في مقالة سابقة أن الطموح الى علاقة جيدة مع اميركا، بفرض وجود مثل هذه الامكانية، لا يمر من خلال قبول كل شيء تأتي به اميركا، بل من افهام الساسة الامريكان انهم لن يصلوا إلى أهدافهم في العراق بدون التعاون مع الشعب العراقي في بناء بلده، وليس التآمر لتدميره. وكذلك كتبت ان الوصول الى علاقة جيدة مع كردستان ليس بالتمسح بقياداتها الاقطاعية والامتناع عن نقدها بل بإفهامها ان طريق العلاقة الجيدة يمر فقط من خلال المصلحة العراقية. لكن الاتجاه الاستسلامي الذي كان يتبعه الحزب الشيوعي وبعض الكتاب من أمثال عبد الخالق حسين في الاندفاع نحو اميركا وذيولها كان تدميرا ليس فقط للوطن، بل لأي احتمال لعلاقة مستقبلية جيدة مع اميركا وكردستان. وأن وضع الحزب نفسه ضمن تيار التطبيع مع إسرائيل فضيحة هائلة لا أكبر منها إلا ان تمر دون ضجيج. ليس فقط لان الشيوعية تصبح مسخرة حين ترفض ظلم “فائض القيمة” وتقدم حياة افرادها فداءً لمعركته، وتقبل بظلم القتل والاحتلال والإقطاعية، إنما أيضا لأنها ببساطة خيانة لدماء الشهداء الذين مازال الحزب يتعكز في سمعته وإعلامه عليها، وقد فقد أي شيء يمكن ان يفتخر به حاضراً.
لذلك يدهشني كثيرا هذا “الضجيج” اليوم من تحالف الحزب مع الصدريين وتحالف سائرون مع “الفتح”، فهل الفتح والصدريين وإيران أشد خطرا على العراق من إسرائيل وأميركا ضمن رؤية الحزب؟ لا يدهشني الاحتجاج على تحالف مشكوك به تماما، لكن حين اقارن هذا الاحتجاج مع الصمت المطبق على التحالفات السابقة، اشعر بخطورة الوضع. إن هذا الموقف يتطلب فقدانا للإحساس ليس فقط بظلم إسرائيل وإنما خطرها أيضاً فمتى وكيف تم هدم هذا الإحساس في نفسية الشيوعي والمؤيد للحزب؟ وإلى أين سيقود هذا الخلل المخيف؟ وهل من أمل ان يدرك الشيوعيون ومؤيدوهم ما تم دفعهم اليه قبل الإيغال أكثر في هذا المستنقع؟